فضاءات الفكر الإسلامي
بين الطبقات المحرومة والطبقات الخطيرة
عبد العزيز كحيل
تقتضي المكانة التي أصبح يتمتع بها الفكر الإسلامي في الأوساط الأكاديمية والشعبية أن تخرج اهتماماته من الدروب المعبد ة لتمتد إلى جملة من الدوائر المعرفية والواقعية التي أضحت تمس صلب الإنسان والمجتمع وبقيت دراساتها حكرا على الغرب والتيارات المتأثرة به،مما انعكس سلبا على الفكر الأصيل المتهم بالاغتراب في الزمن الماضي وتجاهل القضايا المعاصرة أو على الأقل بتناول هذه القضايا تناولا أخلاقيا وعظيا لا ينتج معرفة ولا يحدث تغييرا،ولا فائدة من إنكار ضعفنا في هذا المجال،فهو نتيجة حتمية لتخلفنا في ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية.
إن النمو غير المتكافئ بين المجتمع والمعرفة يطرح على المصلحين مشكلات شائكة تلجئهم في أحيان غير قليلة إلى أنواع من تبرير الواقع أو إنكار الحقائق أو المعالجة السطحية أو الفرار من المعترك وإيثار التعامل بالفتاوى الجاهزة غير البصيرة،بيد أن أحسن موقف يبقى هو دراسة الظاهرة الاجتماعية دراسة تجمع بين عقلية العالم الاجتماعي الخبير وعقلية الفقيه الواعي والداعية الماهر،فذلك من شأنه أن يحيط بكل مستويات الملاحظة الاجتماعية من جهة واستحضار جميع أدوات المعالجة والتناول التي تناغم بين الأصالة والمعاصرة بغير تكلف،وتمكن المفكر الإسلامي من مواجهة المشكلة أو الظاهرة مواجهة علمية واقعية صريحة تنمي الوعي وتفتح الباب لأحداث التغيير المنشود على مستوى الفرد و الجماعة، حتى لا نبقى أسرى التصور الغربي ولا فاقدي الفاعلية وبالتالي فتنة لغيرنا ...ومن المحاور الجديرة بالتناول المستعجل –على سبيل المثال- ما يلي:
_ الانتحار: هل يجدي أن نغمض أعيننا عن هذه الظاهرة المؤسفة التي كانت غائبة من مجتمعنا لكنها أخذت تنحو منحى خطيرا في أوساط الشباب؟وهل يكفي مواجهتها بإعلان تحريمها الجازم؟لعل الأجدى أن تنفر دوائر علمية ودعوية مختصة لدراستها كظاهرة واقتراح طرق علاج مناسبة توازي حجمها وأشكالها ودوافعها.
_ الحياة اليومية: لا يكفي أبدا أن يستمر تعليم المسلم سلوكه الفردي الدائر بين أوراد الصباح والمساء _على ضرورتها _ وإنما يحسن الانتقال إلى الحياة اليومية للإنسان ذكرا وأنثى صغيرا وكبيرا ومجتمعا في ضوء التحول الاقتصادي والاجتماعي والأمني والروحي الحاصل، وإعادة تشكيل منظومة فكرية أخلاقية سلوكية نابعة من رؤيتنا الحضارية منطلقة من حقائق الواقع لا من صور الماضي أو مثاليات الكتب.
_ الفعل: من مآسينا أن فكرنا مازال إلى حد بعيد يتناول الفرد والمجتمع وهما في حالة سكون فيلحظهما ويؤصل لهما بناء على ذلك،ويقع بالتالي في حالات من الخطإ والتسطيح والاختزال ما عادت تخفى على دارس،لذلك يتحتم الإقبال على ربط الفرد والمجتمع أثناء الدراسة بالفعل ثم الاهتمام بالفعل نفسه ليس كحركة فحسب وإنما كعمل له جدوى يناسب الظرف والمتطلبات والمقدمات والطموحات،لأن الإسلام لا يمكنه اليوم أن يقبل بالفعل الرمزي الضعيف فضلا عن السكون،فيجب أن نعرف الرؤية الشرعية الحضارية للفعل المقترن بالتنمية الروحية والمادية،أي بتثمين طاقات الإنسان والجماعة في إطار حركة التغيير المحلية والكونية.
_ الطبقات المحرومات والطبقات الخطيرة:يكاد الكلام ينحصر في الطبقات المحرومة،في حين ينبغي أن يمتد إلى الطبقات الخطيرة التي تفسد المجتمع محليا وكونيا،أخلاقيا وسياسيا وماليا،لدراستها بدقة من أجل اكتشاف دواليبها وتحجيم فسادها وتبصير الرأي العام بها بعيدا عن أساليب الشتم والتجريح،هذا إلى جانب تقل الاهتمام بالمحرومين من الدائرة الأخلاقية الفردية إلى دائرة الاهتمام العلمي الاستثماري الموكل إلى المجتمع المدني (المطلوب هو الآخر العناية بدراسته بعيدا عن الكليشيهات العلمانية).
_ الجنس: طغت موجة الفساد ولم تجد المواعظ كثيرا في صدها،فلماذا لا ينبري العلماء والمفكرون لدراسة مسألة الجنس دراسة تحيط بالمؤثرات والأسباب ودور التربية البيئية والمدرسية والدينية في إحلال المثل العليا محل الغرائز الهائجة وكشف الأوساط التي تقف وراء الفساد الجنسي سياسيا وماليا وإعلاميا؟
_ النجوم: تحتل نجوم التمثيل والغناء والرقص واللعب مكانة،ما كان ينبغي أن يتسنموها في مجتمع إنساني راق فضلا عن مجتمع يؤمن بالله واليوم الآخر،وتأخذ هذه المكانة في التوسع بشكل يستدعي المسارعة إلى إخضاعها لدراسة اجتماعية مختصة تكشف الحقائق وتضع في متناول المربين والمصلحين أدوات التحرك الميداني لإنقاذ قيم الحب والخير والجمال من الابتذال والتوظيف المغرض المنافي للرقي الإنساني والبناء الحضاري.
_ السحر: للإسلاميين اهتمام بأمر الرقية (أي العلاج) وإعراض غريب عن الاهتمام بالسحر (أي المرض) لذلك جاء جل تراثهم سطحيا لا يمتد إلى جذور وخبايا ظاهرة قديمة ما زادتها الحداثة إلا انتشارا،فعدد من يشتكون من السحر باعتراف محترفي الرقية مذهل،فلا بد من إفراد القضية بتناول علمي ميداني يفصل بين الواقع والوهم ويفسح المجال للثقافة الشرعية في أوساط المسلمين.
_ الإنسان ..المقدس ..الخيالي: في بعض الأحيان يتعدى المقدس حدوده في ذهن الإنسان وسلوكه،وفي أحيان أخرى ينحصر وتعمل أطراف على طمسه أو استئصاله كما يلتبس هذا المقدس بالوهم والخيال فيسيء ذلك إلى الإسلام،ويلفت الناس عن الحقائق ليأخذ بأيديهم إلى الخرافة،فتحتم العمل في اتجاه ما هو موجود بالدراسة الوافية لمعرفة كل الاتجاهات ومنابعها وحظها من الصلاح والفساد كمقدمة لوضع خطة فكرية تصويرية أصيلة تجنب الإنسان انطماس البصيرة والغزو الفكري والارتداد العقلي والتيه السلوكي.
هذه نماذج من المواضيع الملحة التي لا يمكن الزعم أن لدينا إحاطة علمية راسخة بها تستوعب الجديد وتجدد القديم وتفتح مجال النفس والمجتمع للمعرفة التي تتيح للمفكر والداعية والمصلح والعالم أن يتعامل مع الواقع تعاملا واعيا مفيدا يحقق إنسانية الإنسان ويرفع الوعي الاجتماعي ويخدم الرسالة الإسلامية،وليكن واضحا أن الأزمة التي أشرنا إليها في هذا المقال ليست أزمة عقيدة ومحتوى وغاية،إنما هي أزمة فكر ومنهج ووسيلة. لذلك لا نستغني عن الاستفادة من أفكار غيرنا الحية ومناهجهم العلمية ووسائلهم المتنوعة الفعالة،وهذا ما يجنبنا الانتقال بالتصور الإسلامي من الممارسة والمباحث الملازمة لها إلى المباحث الفلسفية البعيدة عن اهتمام الإنسان والجماعة،وبديهي أن المعرفة المزمع تحصيلها من خلال ما سبق طرحه ليست معرفة منبتة،إنما هي ما يدل عليه الوحي والحس والتجربة، والذي يعوزنا بالفعل في مجال دراسات الإنسان والمجتمع هو بناء منظومة عصرية تنسجم فيها قيم الوحي والحقائق الحسية وثمرات التجربة العلمية على مستوى تفاعلات النفس وتعدد الظواهر الاجتماعية باعتبار القرآن والسنة ليسا مصدرين للأحكام وحدها كما يتهوم –إلى الآن- كثير من المسلمين،وإنما للثقافة الفكر والمعرفة والحضارة،وهذا ما ينتظر الناس أن يروه بأعينهم في ما يعيشونه من حالات ويعتريهم من ظواهر.