هو الخامس من حزيران

عقاب يحيى

هو الخامس من حزيران..يحضر الآن قوياً.. كأنّ ما يجري بعض نتاجه.. بل هو نتاجه، وخواتمه الخاصة بنظام الإجرام الذي ترعرع في رحم الهزيمة، ونما على وقعها، وعلى المقايضة بنتائجها.. حين قاد أبو الهزيمة الأول : وزير الدفاع ـ قائد الطيران ـ حافظ الأسد ـ انقلابه الطائفي الارتدادي.. لبدء مسيرة طويلة مغمّسة بالقمع، والترهيب ونحر المشروع الوطني والقومي الذي تهاوى في الهزيمة، وتحويل البعث المحكوم ـ أصلاً ـ إلى ممسحة للقذارة، والطائفية، وجميع الموبقات..

ـ اليوم نتذكّر أن الخامس من حزيران عام 1967 كان هزيمة شاملة للمشروع التحرري ـ القومي.. الذي كان يعاني بالأصل أزماته البنيوية الخاصة ببعض طروحاته، وشعاراته، وفكره، وحَمَلته.. ونهاية له على يد النصر الساحق الذي حققه العداوان الإسرائيلي بطريقة أطاحت بكل التقديرات، والتحليلات... وفتحت المجال لاتهامات ثقيلة من مستوى الخيانة في الجبهتين المصرية والسورية، خاصة وأن"الجيش العقائدي" بقيادة الطاغية الأكبر لم يقاتل فعلاً . لم يدافع عن الأرض.. سوى بعض البطولات الفردية لعدد من الضباط والجنود، وترك الجبهة الحصينة عبر " الانسحاب الكيفي"، ومنع وزير الدفاع بدء الهجوم المعاكس الذي كان مقرراً في التاسع من حزيران، وأعلن رسمياً احتلال القنيطرة قبل 36 ساعة من دخول القوات ىالإسرائيلية إليها.. بما فتح الشهية لاتهامات من العيار الثقيل عن " بيع" الجولان مفروشاً.. وعن إدانة القيادة العسكرية والسياسية التي تتحمل عبء الهزيمة، خاصة وأن نهج الهروب للأمام هو الذي ساد وانتصر، والخروج بمقولات سطحية عن فشل العدوان في تحقيق أهدافه.. طالما أن " النظام الوطني ـ التقدمي ـ الثوري ـ لم يسقط" كأحد أهم أهداف العدوان.. بينما اعتبر احتلال الأرض وكأنه ثانوي.. وبينما كان السقوط يسري في خلايا الحزب والحكم طالما أنه لم يقم بالنقد الشجاع المطلوب، ومحاسبة الهاربين، والمخطئين، ولم يتمّ اي تغيير جدّي في مقولة الحزب الواحد ـ القائد نحو الانفتاح على الشعب والقوى الوطنية وإقامة جبهة واسعة تنطلق من اعتبار المرحلة مرحلة تحرر وطني وقومي تتجاوز أي حزب وحكم إلى مجموع فئات الشعب..

****

كثيرة الكتب والدراسات التي كتبت حول الهزيمة ومفاعيلها.. وقد كتبت مراراً عديد المقالات عنها، وعن آثارها، لكن ما يجدر ذكره هنا تلك المفارقة الرهيبة التي نادراً ما تحدث في العالم، وهي أن بطل الهزيمة، ومسؤولها الأول.. وبدلاً من محاسبته، وعلى الأقل إبعاده... يترفّع لرتبة فريق، ثم يقوم بانقلاب شامل على رفاقه، وعلى أعلى هيئة في الحزب الذي يدّعي الالتزام به.. ليصبح الطاغية الأكبر، والبائع الحقيقي للقضية الوطنية والقومية، ولحقوق الشعب السوري في الحرية، والحياة الكريمة ..

ـ نعم .. نجح الأسد في تكوين تكتل عسكري كانت البنية الطائفية واضحة فيه، ثم الانقلاب العلني لإقامة دكتاتورية عسكرية ـ أمنية ـ أحادية بلبوس شعاري مزيّف للتعمية، والغش، والنحر، والنخر..وبواجهات مدنية للترويج والتمرير، والتغرير.. وكأنه" المسكين" يحكم باسم الجماعة، والحزب، ومختلف "مكوّنات" المجتمع.. التي صدّر عديد الانتهازيين والنفعيين والمرتزقة منها كي يمارس دجله، بينما كانت المرتكزات التي حمته، وأبّدته تتلخص في الجيش والأجهزة الأمنية التي كان أبناء الطائفة العلوية عمادها الرئيس، وفقاً لحلقات مافيوزية من العائلة، والضيعة، والعشيرة، والمقربين، والأزلام.. كي يمضي بعيداً في المقايضة، وفي اشتلاع خصائص السوري العاشق للوطن، وممارسة السياسة، والاهتمام بالشأن العام ..

***

فعل انقلاب الأسد كبير، وشامل.. وليس المجال هنا للوقوف عليه..لكن يكفي أن تكون خاتمة الطاغية الأكبر فرض التوريث بكل ما يعنيه من خلع لما تبقّى من أسس الجمهورية، واحتقار أدنى مبادئ البعث الذي عهّره، وجميع الشعارات التي تاجر فيها، واشبعها تلفيقاً، وشحشطة، وتمريغاً .

كان الوريث خلاصة فجور الأحادية، واحتقار الشعب وحقوقه.. مشبعاً بذلك الحقد الموروث، المخلوط بالاستعلاء ، وفكرة إخضاع الشعب بقوة السحق، والامتهان.. والإفساد..

ـ نعم حزيران الهزيمة يحكي قصة ذبح الوطن وتدميره على يد سفاح مجرم.. يعيش أوهام الجبروت، والتملك، ويعلن استعداده المفتوح لبذل كل شيء كي يبقى.. حتى لو كان الثمن الشعب والبلاد، والاستنجاد بقوات الخارج ..وتفسيخ اللحمة الوطنية بإشعال حرب مذهبية ترضي غروره" العبقري" بما أنتجته أجهزته الأمنية لتلطيخ الثورة، وحرفها، ومحاولة جرجرتها إلى مطحنة الحرب الأهلية.. 

هنا الخامس من حزيران يعلن استمرار ذلك الفعل المشبوه الذي ولد من رحمها الخصب، ثم فرّخ ابناءه الحرام الكثر..وهذا النتاج الذي يريد طمس هوية سورية الأبدية، ودورها، وحضارتها، وتوق شعبها للحرية، والكرامة، والحق والعدل..

سيسقط بعض نتاج الهزيمة بسقوط نظام الجريمة والمقايضة والفئوية.. وستفتح سورية التعددية صفحات التاريخ كما يريده شعبها المصمم على انتزاع الحرية مهما غلت التضحيات ..