الأخطر من اعتقال أحمد منصور
كان يمكن لتوقيف مقدم البرامج الحوارية المعروف في قناة «الجزيرة» والصحافي المصري أحمد منصور في ألمانيا السبت الماضي أن يكون مفاجئاً لولا بعض الوقائع التي تلفت النظر.
أول هذه الوقائع هو استقبال ألمانيا للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في بداية الشهر الحالي وفي ذلك ما فيه من تطبيع أعظم اقتصادات أوروبا، وأكبر دول الاتحاد الأوروبي نفوذاً، مع نظام السيسي، وما تمخضت عنه الزيارة من اتفاقات اقتصادية وسياسية مهمة.
ورغم المماحكات العديدة التي حصلت بين السلطات المصرية ومسؤولين ألمانيين كبار مثل وزير الخارجية فرانك شتاينماير ورئيس البرلمان نوربرت لامرت (الذي رفض مقابلة السيسي) ووسائل إعلام ألمانية والإحراج الذي تسببت به بطانة السيسي التي رافقته من إعلاميين وفنانين، ولزوم ما يلزم من كلام ألماني عن انتهاكات لحقوق الإنسان في مصر فإن ما جرى في النهاية كان تطويبا غربيا لنظام السيسي.
وإذا كان النظام المصري قد حاول التقليل من الإحراجات الممكنة خلال زيارة السيسي الألمانية بتأجيله أحكام الإعدام الجماعية التي كان متوقعاً صدورها قبل الزيارة فإن دعوته لزيارة بريطانيا التي صدرت بعد أحكام الإعدام يؤكد ما ذهبنا إليه من أن التنديدات الغربية بانتهاكات حقوق الإنسان والانتقادات السياسية والإعلامية ليست إلا الغطاء الشكليّ اللازم لمجريات تلزيم مصر للرئيس السيسي والموافقة على نهجه السياسي، والأهم من ذلك طبعاً، توجهه الاقتصاديّ الذي أدّى في الحالة الألمانية إلى توقيع عدد من الاتفاقيات بينها اتفاقية مع شركة سيمنز وحدها بتسعة مليارات دولار، وهو ما يذكر بمسلسل الإحراجات السياسية والحقوقية الهائل الذي تحمّلته الحكومات البريطانية في الماضي فيما يتعلق بصفقة «اليمامة» السعودية التي كانت قيمتها الأولية 43 مليار جنيه إسترليني.
يمكن إضافة الكثير من الوقائع المفيدة ضمن هذا الإطار ومثال عليها تأجيل الحكومة البريطانية الإعلان عن نتائج تحقيقها حول جماعة «الإخوان المسلمين» والذي قالت صحف بريطانية أنه أثبت عدم علاقتها (أي الجماعة) بحركات الإرهاب الجهادي، وهو التقرير الذي يمكن أن يؤطر سحبه ضمن أطر سياسية ـ اقتصادية أيضاً تحسب بريطانيا حسابا لها في المنطقة العربية.
على خلفية كل ذلك يمكننا فهم الإجراء الذي قامت به السلطات الألمانية التي استجابت لطلب من الحكومة المصرية بتوقيف أحمد منصور (بجرائم اعتداء وسرقة وهتك عرض!) رغم معرفتها بالطابع السياسي والكيديّ المباشر للاتهامات، وهو ما يهبط بالأمن والقضاء الألمانيين إلى الدرك المؤسف الذي انحط إليه القضاء المصري.
«المتهم» أحمد منصور قال في حديث تلفزيوني إن قضيته «فالصو» لأن النظام في مصر، برأيه، «أضعف وأهون من أن يجر دولة مثل ألمانيا أو الاتحاد الأوروبي إلى لعبته الخسيسة التي يقوم بها مع المصريين وسوف ترتد عليه»، وهو قول صحيح بالعموم ولكن الذي حصل في ألمانيا يدلّ على أن رأي منصور الإيجابي حول الغرب أمر قابل للجدل.
و»الذي حصل» حقيقة هو فضيحة بمقاييس السياسة، أو لعلها ليست فضيحة وكل ما في الأمر أننا موهومون بعدالة الغرب الذي يثبت لنا دائماً أن عقد الصفقات فيه أمر أهم بكثير من «حقوق الإنسان» العربية.
لكن الأخطر من ذلك أن يكون كل ذلك تعبير عن قناعة غربية بأن ما يجري في مصر هو «صواب سياسي» وأن المصريين، والعرب، لا يمكن أن يُحكموا إلا بجزمات العسكر.
رأي القدس