هل لأدونيس أصدقاء حقيقيون؟!

يتبادر إلى الذهن سؤال: هل يوجد لأدونيس أصدقاء حقيقيون؟

وهل يستطيع هؤلاء الأصدقاء إقناعه في نقد الرؤى الطوباوية والعبثية التي طغت على فكره مع بداية أحداث الربيع العربي...

من المعروف أن أدونيس رشح لنيل جائزة نوبل، وتعرض في الوقت نفسه لهجوم وسائل إعلام فاسدة اتهمته بالـ "تطبيع" وهو القائل: "أنا ضد التطبيع في الثقافة الواحدة"، وفي ذلك فضلاً عن إنتاجه الثقافي دلالة على المستوى الرفيع الذي يشغله إنتاجه الثقافي... و تشغل الباحثون المدافعون عنه بصدق في وجه الهجوم عليه لأسباب شخصية، أو لأسباب تتعلق بمعارضته للتهجين وللفساد والاستبداد ـ تشغلهم ـ مواقفه الفكرية والسياسية بعد ربيع عام 2011 خاصة موقفه من الربيع العربي ومن الإسلام، تلك المواقف التي تلخص تجربته الفكرية بشكل عام؛ والتي نجدها في رسالته الشهرية في ربيع عام 2011 ومقاله في حزيران 2015 في جريدة السفير اللبنانية، التي تحتاج إلى نظرة نقدية موضوعية، مع التنويه إلى أنه ليس في حاجة لمن يطريه أو يشتمه، بل إن أمثاله يسرهم  النقد الموضوعي لفكرهم وأدبهم...

وفي هذا السياق نرى مفيداً التوقف عند المسائل التالية:

*  يقول في حديثه للسفير: "المأخذ الأول على التطورات العربية هو خلوها من أي مشروع يشكل خطوة نحو التغيير. ليس تغيير سلطة، بل تغيير المجتمع وتغيير الأفكار وتغيير الثقافة"... ونجد هنا نكران حراك المثقفين الذي سبق تلك التطورات، ونكران الحالة التي أودت بالكثيرين إلى السجون والملاحقة والمحاصرة والمنع من السفر، والمحاربة بلقمة العيش، بل نكران جهده الفكري والثقافي ذاته؛ الذي كان جزءاً من مشروع للتغيير والسعي لتغيير البنى الفاسدة والمستبدة؟...

*  يرى أنّه "إذا استثنينا القاهرة وتونس، لم يحدث تحرك شعبي حقيقي وعضوي، بمعنى الانفجار لأسباب داخلية، فقد كانت الانفجارات اللاحقة خارجية أكثر منها داخلية. كنت أود أن أشاهد تظاهرة كبيرة تخرج من دمشق أو حلب". عجباً كيف لم يسمع بالمظاهرات السلمية الحاشدة التي عمت كثير من المدن السورية من درعا إلى حمص وادلب ودير الزور والحسكة، واللاذقية وأحياء دمشق وغيرها... ومشهورة التظاهرات الحاشدة التي أطلق عليها النار، وبين التحقيق الرسمي حسب شهادة محافظ حماه في مقابلة له على إذاعة (شام أف إم)، على سبيل المثال، الجهة التي أطلقت عليها النار...

أم أن الشعب الذي قام بتلك المظاهرات لا يعجبه؟...

ألم يسمع المسؤولين الرسميين من مختلف المستويات يصرحون لوسائل الإعلام أن الحراك الشعبي كان سلمياً في الستة أشهر الأولى في بداية الحراك عام 2011...  

ماذا يمكن تسمية منهج التفكير الذي يتجاهل كل تلك الحقائق؟

ألا يصب في خانة المساعي الحثيثة التي جرت وتجري للالتفاف على الربع العربي وتشويهه، وتبيان العرب والمسلمين وكأنهم إرهابيون لا مكان لهم في التاريخ المتحضر؟!

* أما حديثه عن الإسلام وأنه نشأ عنيفاً، فهو حديث لا يخلو من التناقض والتجني والتعصب لفكره الذاتي؛ فهو يؤكد أن السيدة خديجة كانت تاجرة وأن نبينا بدأ حياته في التجارة والخليفة الأول كان تاجراً وكذلك الخليفة الثاني والثالث...

من المعروف أن التجارة لا تنسجم مع العنف؛ فكيف نشأ العنف؟

هل نشأ نتيجة البنية الفكرية للإسلام؟  أم بسبب التناقضات والصراعات الاجتماعية الاقتصادية، ككل مجتمعات العالم البشري؟

يربط الكاتب ذلك بالإسلام، ويحاول تبرير رؤيته مستدركاً أن الإسلام لا يتفرد بذلك، بل جميع الرؤى الوحدانية الدينية تشترك في مثل هذا، حسب رأيه. لكن تاريخ المجتمعات البشرية يؤكد أن العنف كان سابقاً للوحدانية وللإسلام، ووجد في مجتمعات لم تكن تدين بالإسلام... وإلا فكيف نفسر سلوك الخمير الحمر في كمبوديا، وما حصل في روسيا، وأمريكا في مختلف مراحل تاريخهما؟ وكيف نفسر ظاهرة النازية والفاشية؟... والقائمة تطول...

لا أجد مسوغاً أو مبرراً منطقياً للهجوم على الإسلام وربط آلية ونتائج الصراعات والتناقضات الاجتماعية الداخلية والخارجية به، فضلاً عن أن الكاتب يتبنى أسلوب النظر إلى التراث من جانبه الديني وحده منقطعاً عن جذوره البشرية الاجتماعية، وهذا أسلوب قسري يضع المسألة خارج حدود التاريخ... علماً أن أسباب التناحر ليست في الدين بل في البنية الاجتماعية الاقتصادية السياسية المهيمنة، وفي القمع والفساد الذي يؤسس له.

* تحمل دعوته إلى "فهم الأصول والجذور لفهم ما يحدث الآن في شكل أدق"، ـ تحمل ـ بذور التفكير الغيبي والطوباوي، والهروب من تحليل تناقضات الواقع الموضوعي لفهم أسباب ما يجري ومعالجتها وفق معطيات الواقع بالعودة إلى "الأصول". ويناقض ذاته حديثه عن نشأة شاعر مثل المعري أو الرواندي أو الأخطل، في بيئة إسلامية.

ما تفسير تعصب الكاتب ضد الإسلام؟

أهي نشأته الحزبية وانتمائه الحزبي، في مرحلة كانت فيها الأحزاب منغلقة ومتناحرة، بل ومارس بعضها القتل والإرهاب ضد مناوئيه من الأحزاب الأخرى؟

* يتساءل الكاتب مستغرباً: "كيف أن بلداً مثل تركيا، حيث ظل العثمانيون على مدى أربعمائة سنة يدمرون العرب لغة وثقافة وتاريخاً وها هم قادة العرب يتوسلونهم. لا يوجد تاريخ أسوأ من تاريخ كهذا، أي أن تكون تركيا قائداً من قادة الثورة العربية"!

لا أعتقد أن الدفاع عن تركيا مبرر خاصة في مواقفها من التنظيمات الإسلامية المتطرفة،  ولكن أي منهج تفكير سليم يسمح بمحاكمة بلد وشعب على تاريخ مرّت عليه قرون من الزمن؟  وهل دراسة التاريخ تقود إلى تصنيفه بتاريخ سيء وتاريخ جيد؟ أم أن تاريخ المجتمعات البشرية من فعل البشر؟ أليس ذلك مثال على الجمود والتفكير الميكانيكي؟!

هل يلام من لجأ إلى تركيا بعد الدمار الفظيع ؟

لو كان أدونيس في مكانهم كيف كان سيتصرف؟ هل تعالج هذه المسائل بإرسال الرسائل؟!

* تثير نظرته لمعاناة شعبه الاستغراب. فهو يتجاهل أسبابها الكامنة في التناقضات الداخلية في المجتمع، ويحمل الشعب مسؤولية تهجيره، بل إنه لا يوصف الواقع بدقة، ويرى أن الشعب هاجر، ولم يهجر نتيجة العنف الموجه ضده؛ إذ يقول: "ثلث الشعب هاجر، لا يوجد شعب في العالم يهاجر ونستمر في تسميته بأنه شعب ثوري".

دعوني لا أصدق أن أدونيس يقول ذلك!

فهل الملايين الذين يعيشون في المخيمات مهاجرون، أو سياح؟

أي منهج تفكير هذا؟

ألا يصب ذلك في مسعى إخفاء حقيقة التناقضات وإضاعة البوصلة؟!

ويعلن الكاتب، وهو على صواب، أن "الهدف الأساسي هو تدمير البلاد". لكنه لا يحدد من يهدف إلى  تدمير البلاد، ومن يتسبب في ذلك؟ ويضرب مثالاً ليبيا، ولا يعبأ بمسألة إن كان القذافي قد ساهم في تدمير ليبيا.

*  مع تقدير جهود ونوايا أدونيس التنويرية والحداثوية فإنه في تبنيه لمثل هذه الأفكار الطوباوية البعيدة عن تحليل الواقع الموضوعي لا يخدم مشروعه مهما زعم أنه حداثوي، أو ديالكتيكي...

لا يكفي أن يعلن المرء أنه حداثوي أو ديالكتيكي كي يكون تفكيره ونتائج أبحاثه فعلاً هكذا، لكي يكون المنهج صحيحاً وحقيقياً؛ من الضروري أن يكون مع الحق ضد الباطل، مع المشاعر الإنسانية النبيلة... من لا يقف في صف الحق ولا تهمه أو تهزه آلام الناس ومعاناتهم لا يمكن أن يكون منهج تفكيره سليماً...

آسف أن أقول إن أدونيس أنهى حياته وكأنه يرمي بكامل ثقافته وإنتاجه إلى مكان لا نرغب لها أن توجد فيه. وهذا يحد من إمكانية الاستفادة من ذلك الإنتاج، وفي ذلك خسارة حقيقية سببها الحاجز الذي يبنيه بينه وبين أبناء شعبه، نتيجة فقدانه للبوصلة وللمنهج السليم في تحليل الواقع الموضوعي... آمل أن يوجد أصدقاء حقيقيون لأدونيس يستطيعون إقناعه في نقد االرؤى واللوثة الطوباوية والعبثية التي طغت على فكره مع بداية أحداث الربيع العربي، وآمل ألا تمنعه نرجسيته من قبول النقد وتبنيه، لأن في ذلك فائدة للمجتمع ولمشروعه الثقافي التنويري الهام.