الشَّهر المقوِّم وتحريف الاستدلال
تفسير القرآن بالقرآن
يحاولُ كثيرٌ من الباحثين وبعض أهل العلم أن يبِّينوا رأيهم في مسألة علميَّة ما، لكنَّهم يقرِّرون ذلك بناء على «الثَّقافة الشَّعبيَّة الدِّينيَّة»، وليس بناء على البحث والدِّراسة والاستنتاج المبنيّ على الحجج والأدلَّة والبراهين؛ بل يستدلُّون على ذلك بأية من القرآن الكريم، بعد اجتزائها، فيكون مثلهم كمَثَل من استدلَّ بقوله تعالى: ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ﴾ النِّساء: 43، وقوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ﴾الماعون: 4، وقوله تعالى:﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ الحشر: 7. ثم يسكتْ
من ذلك اعترافهم وإقرارهم -وهو إقرار خاطئ كما نراه - أنَّ الله سبحانه وتعالى حرَّم «النَّسيء» الذي هو زيادة شهر لتقويم الانحراف السَّنويّ الحاصل، ويستدلُّون على ذلك بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ﴾ التَّوبة: 37. ويسكتون، ويجتزؤون شيئًا من الآية ويضعونه في غير موضعه بناء على «الثَّقافة الشَّعبيَّة الدِّينية» التي وصلتهم، والتي أصبحت من وجهة نظرهم «دينًا قيِّمًا»، وهو بزعمهم «الدِّين» الذي أراده الله سبحانه وتعالى لعباده.
ونقول:
أولا: إنَّ صدر الآية وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ التَّوبة: 37. تدلُّ على أنَّ ثمَّة عملاً تقوم به طائفة «كافرة»، تزداد كفرًا إلى كفرها الواقع أصلا بهذا «العمل»، فما هو؟!
ثانيًا: تتمَّة الآية في قوله تعالى: ﴿يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾: أي أنَّ هذا العمل الذي قامت به الطَّائفة الكافرة والتي تزداد كفرًا به يُحدِثُ نتيجةً وهي «ضلال» طائفة كافرة أخرى.
أي: طائفتان كافرتان؛ طائفة تقوم بعمل ما تزداد كفرًا إلى كفرها، وتضلُّ به طائفة كافرة، يعني: «منهم وإليهم».
ومن المعلوم أنَّ هذه السُّورة نزلت في العام التَّاسع من الهجرة حيث كان التَّقويم القمريُّ بزيادة الشَّهر المقوِّم ساريًا، فإذا كان المراد بهذا العمل «النَّسيء» تحريم «التَّقويم» فهذ يعني أنَّ الخطاب من حيث النَّتيجة في قوله تعالى: ﴿يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ يتضمَّنُ النَّبيّ e وهو نبيٌّ مرسَل ومن معه، وهذا محال.
ثالثًا: تتمَّة الآية في قوله تعالى: ﴿يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً﴾: الضَّمير وهو «الهاء» في الفعلين يعود على «النَّسيء» في صدر الآية، فإن كان ذلك صحيحًا فهذا يعني بالضَّرورة أنَّ هذا العمل كان حلاًلا عامًا، وحرامًا عامًا، ومن المعلوم أنَّ الشَّهر المقوِّم كان يُزاد كلَّ ثلاث سنوات، فبَطَل أن يكون هو المراد بلفظ «النَّسيء».
مع التَّنبيه على لفظ «عام» في هذه الآية؛ لأنَّ المفهوم القرآني يستخدم «سنة» و«عامًا» لتمايز اللّفظان، وقد جمعهما سبحانه وتعالى في آية واحدة في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ العنكبوت:14.
رابعًا: تتمَّة الآية في قوله تعالى: ﴿لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ﴾، ومن المعلوم أنَّ «اللام» في قوله: ﴿ليوطئوا﴾ سببيَّة، جاءت لتدلَّ على نتيجة فعلٍ سابق، وضَّحه هنا وهو: موافقةُ عدَّة ما حرَّم الله. فما هي ﴿ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ ﴾؟!
قوله تعالى: ﴿عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ﴾ هي «الأشهر الأربعة الحرم» دلَّت عليها الآية السَّابقة لهذه الآية، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ التوبة: 36.
فإن قلتَ: ألا يمكن أن تكون ﴿عدَّة ما حرَّم الله﴾ عائدة على ﴿عدَّة الشُّهور﴾ وهي اثنا عشر شهرًا؟!
قلتُ: إنَّ جاز فهذا دليل جديد على أنَّ المراد من «النسَّيء» شيء وعمل آخر غير «الشَّهر المقوِّم»، إذ لو كان هو المقصود من فعلهم؛ ليوافقوا عدَّة الله في الاثني عشر شهرًا؛ لكان فعلهم هذا عظيمًا، ولتوافق مع أمره سبحانه وتعالى، إذ من المحال أن يكون موافقتهم لعدَّة الله التي أمر بها كفرًا، أو زيادة في الكفر، فبَطَل ما قلتَه.
إذن: ما زال السُّؤال مطروحًا، ولم تأتِ إجابته من حيث العمل والنَّتيجة، فكيف جاز لثلَّة من العلماء أن يستدلِّوا بصدر الآية؟ وكيف جاز لهم أن يسكتوا عن تتمَّتها؟ ولو انَّهم فعلوا لبان المراد، ولفُهموا المقصود.
أي: ما هو العمل الذي تقوم به الطَّائفة الكافرة فتزداد به كفرًا إلى كفرِها، وتضلُّ به طائفة أخرى كافرة، بحيث يجعلون هذا العمل حلالا عامًا، وحرامًا عامًا آخر، ليوافق عدَّة ما حرَّم الله، التي هي «الأشهر الحرم»؟!
خامسًا: وهو الجواب عن ذلك كلِّه في قوله تعالى: ﴿فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ﴾: أي أنَّ العمل الذي قاموا به هو تحليل ما حرَّم الله، أي: تحليل شهر محرَّم، نصَّ القرآن على حرمته، فقال تعالى عنها: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾، فكانوا يُحلُّون الشَّهر المحرَّم عامًا، ويُحرِّمونه عامًا، ثم ينسؤون «يؤخِّرون» الشُّهور ليوافقوا ﴿عدَّة ما حرَّم الله﴾، فيقعوا من حيث النَّتيجة في «تحليل» ما حرَّمه الله فيها من «الصَّيد» وغيره.
وثمَّة سؤال آخر مطروح لمن يستدلُّ بجزء من الآية دون تمامها في قوله تعالى: ﴿فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ﴾: إن كان المراد بالتَّحريم الشَّهر المقوِّم فأين: نصَّ سبحانه وتعالى على تحريمه عليهم قبل هذه الآيات؟!
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يوفِّقنا لفهم كتابه على النَّحو الذي أراده لعباده، بعيدًا عن تحريفات زائفة أدَّتْ إلى إبعاده عن مضمونه ومراده، والله تعالى أعلم.