تركيا نحو منطقة آمنـة في الشمال السوري

clip_image002_952a5.jpg

خطوة متأخرة لإقامة توازن استراتيجي بعد «النووي الإيراني»

خطت تركيا أولى خطواتها لفرض منطقة عازلة على حدودها مع سوريا، من خلال اشتباك مزدوج مع تنظيم «الدولة الإسلامية» و«حزب العمال الكردستاني»، فرضته الوقائع الميدانية، وتقدمت على أساسه أنقره نحو الخطوة التي طال انتظارها، وانتظار نضوج ظروفها الدولية والإقليمية.

فعلى المستوى الإقليمي، كان لا بدّ لتركيا أن تتخذ جملة خطوات تحافظ فيها على القيمة الاستراتيجية لتحالفها مع المعارضة السورية، بعد إتمام الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب. وليس هناك أقل من توفير ملاذ إنساني آمن للسوريين يسمح بإقامة البنية الأساسية لانطلاق المعارضة من الداخل السوري، ولفرض وقائع ميدانية وسياسية تمكن الائتلاف المعارض من استعادة جزء من المبادرة، فضلاً عن إعادة عدد كبير من السوريين اللاجئين إلى الداخل السوري، وإقامة نموذج للمناطق المحررة، يسود فيها الأمان والاستقرار النسبي، والتنظيم المناسب لقوى المعارضة، بحيث يتوفر ما يمكن تسميته البديل السياسي الناضج والكافي لإسقاط بشار الأسد واستبداله بنظام وأشخاص ينهون حكم الاستبداد القائم.

التحدي الأكبر الذي واجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو كيفية البدء بخطوة المنطقة العازلة، في ظل تزاحم تنظيم «الدولة الإسلامية» والمسلحين الأكراد على الحدود السورية – التركية، وقد ارتكب تنظيم الدولة خطأ واضحاً في قيامه باستهداف تجمع كردي داخل الأراضي التركية، الأمر الذي اعتبره أردوغان تحدياً لبلاده، واستفزازاً غير مقبول، استدعى رداً مباشراً، بالتوازي مع إعلان أنقره أن «حزب العمال الكردستاني» المصنف منظمة إرهابية، سيكون موضع استهداف، وخاصة معسكراته التدريبية في العراق.

ولاحقاً أعلن رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو أن تركيا ستوفر غطاء جوياً للمعارضة السورية في حربها ضد النظام، وأن عملياتها العسكرية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» لن تشمل تدخلا برياً.

وبهذا الإعلان تكون أنقرة قد أوضحت أن حربها ضد تنظيم الدولة ليست شاملة ولا مفتوحة، بل هي محصورة في متطلبات نجاح خطوة إقامة المنطقة الآمنة.

كما القيادة التركية أثبتت أنها بقيت صامدة في وجه الضغوط الأميركية، التي كانت تريد توريطها في حرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» لا تشمل الحرب ضد نظام الأسد، حيث يبدو أن واشنطن فشلت في تفريخ ما يسمى المعارضة المعتدلة التي تحصر قتالها ضد تنظيم الدولة، وتتجاهل جيش الأسد وميليشيات إيران..

فقد أقامت الولايات المتحدة معسكرا على الأراضي التركية، دربت فيه بضع مئات من المقاتلين السوريين، لكن أكثريتهم انسحبوا بسبب رفضهم التوقيع على استمارة تشترط عليهم الاكتفاء بقتال تنظيم الدولة، وتمنع عليهم مواجهة قوات الأسد. وكانت تلك خطوة أميركية في غاية الوقاحة، تجاهلت حقيقة التركيبة السورية، وكشفت الوجه الحقيقي للدور الأميركي في سوريا، لكنها خطوة باءت بالفشل، الأمر الذي أتاح لتركيا التقدم بمشروعها القديم الجديد، المتمثل في إقامة المنطقة العازلة.

سيحتاج إتمام المنطقة العازلة سلسلة خطوات متدرجة، منها العسكري، ومنها الميداني، بحيث تُحسم هوية القوى التي ستديرها، ثم المباشرة في التنظيم وتوفير البنية التحتية، على أن يلي ذلك إعادة عدد وافر من اللاجئين وإسكانهم في الحيز الجغرافي الذي ستتيحه المنطقة العازلة، ثم إعلان دخول الائتلاف والحكومة المؤقتة إلى المنطقة المحررة، والبدء في الاستثمار السياسي لهذه الخطوة، والبناء عليها لإطلاق نقاش سياسي جديد في الملف السوري، غايته ضرب فكرة التخيير بين ما يسميه الغرب وإيران إرهابا، وبين نظام الأسد والعصابات المذهبية المساندة له، في ظل اترجيح الأميركي لكفة النظام.

ستشمل إدارة المنطقة العازلة توسيع الموارد الطبيعية والسيطرة على بعض منابع النفط والمصانع الكبرى، خاصة أنه يتوقع أن ينحسر وجود النظام الأسدي في حلب، ومع الغطاء الجوي للمعارضة، يتوقع أن تشهد حلب بعد استكمال تحريرها، إعادة إعمار سريعة وترميما لمرافقها الاقتصادية، وتهيئتها لتكون العاصمة الفعلية للمعارضة، في حربها نحو دمشق.

ردة فعل إيران والنظام

تشير الأوساط المطلعة على مسار التواصل بين «حزب الله» وبشار الأسد، إلى أن الأخير تبلغ من مواقع قرار إيرانية وروسية، أن قيام المنطقة العازلة في الشمال السوري أصبح أمرا مفروغا منه، وأن تركيا استطاعت الإفادة من أجواء ما بعد الاتفاق النووي الإيراني – الغربي لتفرض أمرا واقعا ليس باستطاعة طهران وحلفائها الحيلولة دون نشوئه.

وقد ساد القنوط والتشاؤم أوساط الأسد و«حزب الله» جراء هذه الأنباء، فقام الطرفان بتكثيف الهجوم على مدينة الزبداني، في محاولة مستميتة منهما لإحراز تقدم يتوازى مع «النصر النووي»، ويستبق هزيمة محققة في الشمال، في حين تزداد هواجس الحزب من التقدم الذي أحرزه تنظيم «الدولة الإسلامية» على جبهة حمص وعلى تخوم القصير المحتل.

أفـق الصراع

يستند الإيرانيون في دعايتهم إلى جملة نقاط يبثونها، يركزون فيها على «وحشية المجموعات السنية» التي تقاتل ضدهم في سوريا والعراق، مستندة إلى تجاهل الإعلام العربي المضاد كشف وتعرية حقيقة الجرائم الإيرانية المرتكبة في العراق وسوريا، في صراع لا يستحيي نوري المالكي من توصيفه بشكل مذهبي حاد.

يدرك القادة الأتراك، ومعهم القيادة السعودية، أن زمن التحالف مع أميركا قد انتهى إلى غير رجعة، ومن المرجح أن يتحول المزاج الأميركي تدريجيا إلى مزاج معادٍ للعرب ولأهل السنة بشكل علني، ولذلك بادر الرئيس التركي أردوغان إلى أخذ زمام المبادرة، كما كان قد سبقه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في «عاصفة الحزم» اليمنية ذات الأبعاد العربية والإسلامية.

ولعل من التجارب الهامة التي يجدر بالقادة العرب أخذها بالاعتبار أن إيران لم تحقق مكتسباتها تحت سقف القوانين والأعراف الإسلامية والدولية، بل إنها قامت بخرق كل الأسقف، وتخطت واخترقت الحدود، ولم تتورع عن ارتكاب أعمال إجرامية، وصنّف المجتمع الدولي كثيرا من تنظيماتها وأعمالها بأنها إرهابية، وتعرضت القيادة الإيرانية لضغوط شديدة من أجل التخلي عن ميليشياتها، فلم ترفع الغطاء عنها، لا في العراق ولا في لبنان ولا في اليمن أو البحرين، بل إنها امتدت إلى بلدان إضافية مثل نيجيريا، فضلا عن قيامها باحتلال أجزاء واسعة من الأراضي السورية.

إن هذه التجربة تعني بشكل أساسي أن من يمتلك القوة في الميدان، هو من يتمكن من رسم الخرائط وفرض الوقائع، وبالتالي، فإن المواجهة باتت اليوم تفترض طريقة عمل تأخذ بعين الاعتبار كل عوامل الصراع وآليات ومستلزمات النجاح، ضمن ضوابط القيم الإسلامية والإنسانية، ولكن بالتأكيد ليس تحت سقف المظلة الأميركية أو ما يسمى الشرعية الدولية، التي يجب العمل على زحزحتها حتى تصبح ملائمة للمصالح العربية.

لقد تأخرت «عاصفة الحزم» وجاءت بمثابة الرد المنقذ قبل انهيار جدار اليمن على الجوار السعودي، وتأخرت خطوة إقامة المنطقة الآمنية على الحدود السورية أربع سنوات، وبدل أن تكون في أوانها نقطة انطلاق لإسقاط نظام الأسد، ها هي اليوم تأتي لتحصين المناطق المحررة وبدء رحلة لا تزال طويلة في مواجهة إيران على الأرض السورية، لكن كلا الخطوتين، كانتا ضروريتين، رغم تأخرهما، لأنه بدون مبادرات كهذه ستسقط عواصم العرب الواحدة تلو الأخرى، تحت ضربات المثلث «المقدس» الجديد «إيران – أميركا- الكيان الصهيوني».

يبقى القول: إن أساس نجاح واستكمال عناصر الاستنهاض، هو استكمال التحالف بين المملكة العربية السعودية وتركيا، باعتبارهما القوتين الأكثر قدرة في المنطقة، وخصوصية كل منهما ووزنهما السياسي والاستراتيجي، والإفادة من الدور القطري الفاعل، وإتمام التعاون مع جماعة «الإخوان المسلمين» والعمل على وأد الصراعات الداخلية والعودة إلى الأولويات الكبرى، دون إغفال عناصر التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

وسوم: العدد 627