محاصرة الإسلام وتدمير الأوطان بذريعة محاربة الإرهاب

ألا ترون معي أن مكافحة الإرهاب قد اختزلت كل قضايا الأمة، وأنه لم يعد هناك قضية أهم من محاربة الإرهاب، وأن القضايا القومية والوطنية الأساسية، مثل التنمية العامة أو البشرية، والإصلاح السياسي، والتكامل الاقتصادي، ومحاربة الفقر والجهل والمرض ورفع مستوى وكفاءة التعليم في العالم العربي، خاصة البحث العلمي، قد غابت عن برامج الحكومات العربية، ولم تعد من أولوياتها، أو حتى في اهتماماتها؟

وأصبح الفكر العربي والرأي العام ووسائل الإعلام، مشدود الاهتمام في متابعة «فيلم أو شريط الإثارة الجديد» المسمى مكافحة الإرهاب، حتى القضية الفلسطينية، التى كانت القضية المركزية، لكل دولة عربية او إسلامية، ولدى المنظمات الدولية والإقليمية، خاصة جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، على امتداد أكثر من سبعة عقود اختفت من جداول الأعمال، ليحل محلها موضوع مكافحة الإرهاب. وبعد أن كان الشعار العربي «لا صوت يعلو فوق معركة تحرير فلسطين»، أصبحت إسرائيل، دولة الإرهاب ومصدره، حليفاً وشريكاً للعرب في محاربة كل مقاومة للاحتلال والعدوان والاستبداد.

واليوم، نرى أن محاربة الإرهاب دخلت كل ميادين الحياة في عالمنا العربي والإسلامي، ودخلت كل بيت من بيوتنا، وكل عقل من عقولنا، وهيمنت على آرائنا وأفكارنا، وحددت مواقفنا وصاغت حياتنا، وأصبحت أهم قضية تستأثر بالجهد والمال والوقت، والأدهى من ذلك، أن الأرواح تُزهق والدماء تُراق والأوطان تمزق والأحقاد تتعمق، من اجل قضية وهمية معدة بدهاء ومكر لشيطنة الإسلام، ولتدمير مقومات وقيم وكيان الأمة العربية والإسلامية، وتمزيق وشائجها ونسيجها الاجتماعي وشل تفكيرها ومصادرة حريتها ونهب خيراتها، لمصلحة قوى ثلاث اخترعت الإرهاب وصاغته وسوقته، من اجل بقائها واستمرارها وإجهاض كل مقاومة ضدها، وهذه القوى الشيطانبة الثلاث المتحالفة ضد الأمة هي، الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والعدوان الغربي الصهيو أمريكي، خاصة ضد العراق وافغانستان، والاستبداد الوطني المتواطئ والمتحالف مع العدو المحتل. 

لم يسجل التاريخ الحديث عمليات إرهابية في المنطقة العربية قبل ظهور العصابات الصهيونية المسلحة في فلسطين، التي أصبحت نواة لجيش العدوان الإسرائيلي منذ إنشاء إسرائيل سنة 1948، ومن أولى هذه العمليات كانت جريمة تفجير فندق داوود في القدس ومقتل مندوب الأمم المتحدة الكونت برنادوت، ثم مذبحة دير ياسين وقبية، وتوالت جرائم إسرائيل منذ ذلك الوقت، بتواطئ غربي، وتجاهل أممي، وخنوع عربي، وكان من بينها، مذبحة صبرا وشاتيلا، والعدوان الوحشي المستمر على قطاع غزة المحاصر وتجويعه، وانتهاك حرمة المسجد الأقصى، ومواصلة احتلال الضفة الغربية وإقامة المستعمرات وقضم الأراضي وتهجير السكان الأصليين. وعنــــدما مارس الفلسطيني حقه المشروع في مواجهة الاحتلال والإرهاب الإسرائيلي لوحق، إسرائلياً وعربياً ودوليا، باعتباره إرهابيا! 

وقبل سقوط حائط برلين وانتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، وقبل استحداث نظرية الفوضى الخلاقة لإعادة تقسيم وتوزيع المنطقة العربية، وقبل أن يتجه الفكر السياسي الصهيوأمريكي إلى اختيار الإسلام عدوا جديدا بديلا عن الاتحاد السوفييتي، لم يكن هناك إرهاب في العالم العربي والإسلامي، باستثناء الإرهاب الإسرائيلي، أو الرد عليه، وإن حدث فهي عمليات فردية منعزلة لها أطرافها وأسبابها. ولكن، ومع تفجير برجي التجارة في نيويورك سنة 2001، الذي ما زال لغزاً لم يحل، وتوظيفه واستعماله واستغلاله كذريعة لإعلان الحرب على العرب والمسلمين في كل مكان، واتخاذه مبرراً لغزو أفغانستان ثم العراق، ثم إشهار سيف مكافحة الإرهاب في وجه كل من يعارض سياسات الهيمنة والاستعمار الجديد للمنطقة العربية والإسلامية، انتشرت العمليات الإرهابية وتداخلت أسبابها وأطرافها وأهدافها، وها نحن نرى المنطقة كلها تغرق في أتون انفجار مدمر، لم يكن ليحدث لولا تجاهل العالم للجرائم الإرهابية المستمرة للاحتلال الإسرائيلي، وغزو أفغانستان والعراق من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، بمبررات ثبت زيفها، وكان العالم كله، للأسف، إما متآمراً فيها او مشاركاً عن جهل او عن قصد، من أجل صياغة عالم جديد، يقوم على نظرية الفوضى الخلاقة، ويخدم هيمنة وسيطرة وبقاء إسرائيل في المنطقة بلا تهديد ولا منافسة. 

وعندما اندلعت ثورات الربيع العربي، بعد عقود من القهر والاستبداد والطغيان، حيث كانت الشرارة في قيام مواطن عربي تونسي مسحوق، اسمه محمد البوعزيزي، بحرق نفسه احتجاجاً على صفعة أطاحت بآخر ما لديه من كرامة، ففجرت براكين من المشاعر العربية المكبوته، من أجل استرداد كرامة شعوب أهدرت، وحريات كُبتت، وحقوق إنسان انتهكت وأوطان ضاعت، سارعت أنظمة الاستبداد العربية، مستنجدة بحلفائها من الدول الغربية، التي كانت تستغفل الشعوب وتستقطبها بشعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، خلال حربها الطويلة ضد الاتحاد السوفييتي. وعندما وجدت هذه الدول أنها أصبحت في مواجهة مكشوفة مع شعوب تقاتل من اجل اســترداد حريتها وحقوقها واستقلال إرادتها، وأن المساحيــــق التجميلية زالت عن وجهها الاستعماري البشع، وأن القناع الزائف سقـــط، سارعت بتوظيف الإرهاب ودعمه بشتى الوسائل وجمــــيع الإمكانيات المادية والمعنوية والسياســــية والإعلامية، ثم أخذت تصدر صرخات الحرب الهستيرية وتدق طبولها وترقص رقصاتها المتوحشـــة، على الأشلاء البشرية والأطلال الحضارية لأمة يقول التاريخ والواقع، إنه لم تكن صدفة أنها كانت «الأمة العربية والإسلامية».

قد تنجح هذه الحرب المفتعلة ضد الإرهاب، في تدمير البنية التحتية والفوقية على امتداد مساحات شاسعة من الأراضي العربية والإسلامية، من أجل إعادة بنائها، بطريقة أقل جودة وأكثر تكلفة، بهدف استنزاف أموال شعوب متخلفة لا تستحقها، حسبما همس به كثيرون في الغرب المتحضر، وإعادة ضخها لمصلحة شعوب متقدمة مترفة متخمة لإنقاذها من مصير اليونان مثلا!

قد تساهم هذه الحرب في استمرار مصانع الأسلحة الغربية المختلفة، بالعمل ليل نهار، بكامل قدراتها وإمكانياتها، من أجل تزويد جميع الأطراف المتحاربة في المنطقة بكافة أنواع الأسلحة، ما دام هناك نفط يُضخ، وأرصدة بمليارات الدولارات تصب في بنوك الغرب، مما يساهم في زيادة الرفاهية الغربية، والتقدم والتطور في الصناعات العسكرية وخفض نسبة البطالة في المجتمعات الغربية، مقابل زيادة الفقر والتشرد والهجرة غير الشرعية وارتفاع نسبة البطالة في المجتمعات العربية والإسلامية، باعتبارها ضحايا لهذه الحروب التي تُشن بذريعة محاربة الإرهاب.

قد تنجح هذه الحرب ضد الإرهاب، في إرهاب بعض المناهضين لأنظمة الاستبداد، والمدافعين عن حقوق الإنسان والمقاتلين من اجل الحرية ضد الاحتلال والعدوان، وقد تنجح في تكميم الأفواه، وتجريم حرية الرأي والتعبير بذريعة دعم الإرهاب، وقد تنجح هذه الحرب الماكرة ضد الإرهاب في دعم انظمة الاستبداد، وفي استعادة كيانات بعض من سقط منها خلال ثورات الربيع العربي، وقد تنجح حتى في إجهاض ثورات الربيع العربي، من اجل إعادة شعوب المنطقة العربية والإسلامية إلى حظيرة الطاعة، قد تنجح هذه المخططات الشريرة، بما يتوفر لها من إمكانيات هائلة، من مال ووسائل إعلام، ونفوذ سياسي، وقدرات اقتصادية، وتفوق عسكري، ودعم دولي، وتواطؤ عربي، في صنع الإرهاب وتسويقة، ثم ادعاء شن الحرب عليه، من أجل تحقيق كل الأهداف الشيطانية المشار إليها أعلاه، واكثر منها بكثير، ولكنها يقيناً، لم ولن تنجح، في دفع «محمد» آخر مهما كان لقبه، أن يحرق نفسه، احتجاجاً على سلب ما تبقى لديه من كرامة، كما فعل محمد البوعزيزي، لأن محمداً هذا، وقد استرد كرامته من خلال ثورات الربيع العربي، وامتلك حريته وسلاحه، يبدو أنه على أرض الواقع، قد اتخذ قراراً لا رجعة فيه ولا نكوص عنه، وهو أن يحرق جميع سُفنه، حتى لا يجرؤ بعد اليوم أحد على سلب حريته أو إهانة كرامته.

وسوم: العدد 627