دهاليز التسوية في سوريا
بعد أربع سنوات ونصف تقريباً من اندلاع الثورة السورية، هناك شبه إجماع لدى اللاعبين الدوليين والإقليميين الذين ساهم جزء منهم في وصول الوضع السوري إلى ما هو عليه اليوم من خراب ودمار وقتل إما نتيجة دعمهم لنظام الأسد وإمّا نتيجة قرارهم بتعطيل الدعم لمعارضيه، على أن الأزمة السورية يجب أن تنتهي بحل سياسي وفق ما نصّت عليه مبادرات جنيف. جيّد، لقد سمعنا هذا لوقت طويل، ما المستجد اليوم؟
المستجد أن قسماً من هؤلاء اللاعبين يرى ضرورة تطبيق هذا الحل مع بقاء الأسد في السلطة الى حين إكتمال العملية، والجزء الآخر يرى أنّه من غير المقبول أن يكون الأسد موجوداً في أي عملية من هذا النوع. بين هذين الطرحين، تدّعي واشنطن بأقوالها أنّها مع المعسكر الثاني وتبرهن يوماً بعد يوم بأفعالها أنّها مع المعسكر الأوّل.
ينشط اللاعب الأمريكي مؤخراً على ما يبدو لإستطلاع مدى إمكانية تحقيق مطلب الروس والإيرانيين في إمكانيّة إبقاء الأسد شكلياً، دون أن يصرّح بشكل مباشر أنّه مؤيد لمثل هذا الأمر. لكنّ مجرّد إستكشافه له يعكس النوايا الأمريكية خاصة عندما يقال إنه من البديهي أن لا يختفي الأسد بشكل مباشر. يعمد الجانب الأمريكي إلى تمويه نواياه متمسّكا بمقولة (لا دور للأسد في مستقبل سوريا) وهي عبارة ذكرنا سابقاً أنّها مبهمة لأنّها تبقي الباب مفتوحاً أمام احتمالات أخرى (دور خلال المرحلة الانتقالية مثلاً)!
بموازاة هذه المعادلة هناك معادلة أخرى تتعلّق بالأولويات لدى هؤلاء اللاعبين. لا يزال هناك قسم منهم يرى أنّ الأولوية يجب أن تكون لمحاربة "داعش" وأنه لا بد من الاستفادة من جيش الأسد في هذه المعادلة وأنّ المطروح هو تحالف إقليمي ودولي ضد الإرهاب لا يستبعد منه هذا الجيش (الذي هو عبارة عن عصابة عائلية حالياً)، بينما يرى الآخرون أنّ الأولويّة يجب أن تكون لإخراج الأسد وجماعته من المشهد. أما الأمريكي، فهو مع أولويّة محاربة "داعش" منذ البداية لكنّه يقول أنّ الأسد ليس جزءً من جهود مكافحة "داعش".
معظم الضغط الجاري اليوم هو حول هذه المعادلة الأخيرة، أمّا المعادلة الأولى فيتم التحضير لها ضمن اقتراحات متعددة تطبخ على نار هادئة بدءً من الأفكار العامة التي تتضمن (حكومة وحدة وطنية وانتخابات في ظل الأسد وتعديل للدستور) مروراً بأفكار عن قوائم للقوى المقبولة من الطرفين الموالي والمعارض للمشاركة في حكم إنتقالي وكيفية حماية الأقليات وإخراج حزب الله من سوريا، وليس انتهاءً بالبحث في الكيفية التي يمكن بها تغيير الرؤوس دون الجسد فيما يسمونه بالمؤسسات السيادية السورية (وكان هناك مؤسسات أصلاً).
محور نشاط هذه المبادرات التي تتضمن كل هذه المعادلات هو الموقف الروسي. يجري كل هذا التحرّك نظريا تحت عنوان انّه لا يمكن تجاهل دور روسيا في القضية السورية وأنّها تبقى العنصر الأكثر تأثيراً على الأطراف المعنيّة كالأسد وإيران وأنه يجب التواصل معها لإقناعها بضرورة تغيير موقفها. عملياً، ما يتم حقيقة طرحه هو استخدام سوريا مرة أخرى كجزرة لإسترضاء موسكو والتوصل معها الى صفقة ترضيها وذلك كما تمّ استخدام الملف السوري خلال المرحلة الماضية من قبل ادارة اوباما كجزرة لاسترضاء الايرانيين.
الحديث عن تسويات ليس مبشراً بالخير، خاصة عندما يتم قيادتها من الخارج. لدينا نماذج عن تسويات إقليمية قيل إنها لتغيير الاوضاع نحو الأفضل ثم تبيّن أنّ هذه التسويات ما هي الاّ وصفات لاستكمال تدمير الأرض والشعب والمؤسسات لدرجة أنّ هذه البلدان لم تعد قادرة على النهوض مجددا رغم مرور سنوات طويلة على هذه التسويات. والأسوء من ذلك، انّ الطرف المستهدف إخراجه من المعادلة عبر هذه التسويات هو الذي تؤول الامور إليه في نهاية المطاف مع تحلّيه بسياسة "الصبر الاستراتيجي" إن صح التعبير.
في لبنان، تمّ توظيف إتّفاق الطائف بشكل بشع من قبل اللبنانيين والنظام السوري، تم تطبيقه بشكل إنتقائي وفي النهاية كانت النتيجة أن يحكم حزب الله (حليف النظام السوري والإيراني) البلد فعلياً ويعيد تركيبه من جديد بما يتوافق مع ما يريد ومصالح إيران بمعزل عن الاتفاق الذي أصبح مجرد حبر على ورق. في العراق جرى ويجري نفس الشيء تماما. البعض قد يقول إن المعطيات الديمغرافية في سوريا لا تساعد على تحقيق مثل هذا الأمر. لا أحب ان أكون متشائما، لكن أقول لا تراهنوا كثيرا على مثل هذا المعطى.
خلاصة الموضوع كما قلنا سابقاً، ما يجري الآن من مبادرات لإدارة عملية إنهيار نظام الأسد بحيث يتم التحكم فيها بما يفضي إلى نتائج مدروسة تؤدي إلى ضمان مصالح الأطراف التي كانت سبباً في الخراب منذ البداية (أمريكا، روسيا، إيران)، وذلك بمسوغ أنّه ما لم يحصل ذلك فسنكون أمام سيناريو يؤدي الى فوضى تخرج عن سيطرة الجميع.
وسوم: العدد 628