إنما (الدول) الأخلاق ما بقيت..
عزيز العصا
بداية؛ أسجل اعتذاري للشاعر الراحل "أحمد شوقي"، للتغيير الذي أحدثته على بيت الشعر المشهور؛ إذ أن للضرورة أحكام. فقد شهدنا في الآونة الأخيرة حركة دؤوبة من الاحتلال شملت الجامد والمتحرك على أرض فلسطين، بخاصة في محافظاتها الشمالية (الضفة الغربية)، أما البشر فلم يعد لهم وجود، أمام الهجمة التي مارس علينا بحجة البحث عن "مخطوفين!!".
وقد قُدِّرَ لي أن أكون "شاهد عيان" على هذه الحملة؛ إذ دهمنا جيش الاحتلال، بعيد منتصف الليل، بقوة كبيرة بدأت بالالتفاف حول المنازل والطرق على الأبواب، بشكلٍ مروّعٍ، يصاحب ذلك نداءات الجيش التي نصُّها: "جيش.. افتخ باب"؛ هذه العبارة التي تضغط على مسامعنا، وعلى أعصابنا، وعلى عقلينا (الظاهري والباطني) منذ سبعة عقود من الزمن..
ينقسم المداهمون بين ملثمٍ، وصاحب وجه مطلي بلون رمادي. أما الإجراءات، وكما تعودنا عليها، فتبدأ بإخراج كل من في البيت، و(أحياناً) يراعى وضع الأطفال النائمون، ثم التفتيش بأشكالٍ ومستويات مختلفة؛ يحكمها الوضع النفسي للجنود المُداهِمين.
في هذه المرة؛ لم يسلم طفلٌ ولا عجوزٌ ولا امرأة ولا فتاة، وأما الشباب فهم اللقمة "المشتهاة" التي يسعى الجنود إلى "التهامها" وابتلاعها بنهمٍ شديد.
لكي لا نبتعد عن موضوع العنوان؛ أود التأكيد على أن ما شاهدته من فِعال الجنود وأفعالهم، هو من النوع الذي لا يمت إلى أخلاق "الجندية" و/أو "العسكرية" بصلة، فقد شاهدت "بأم عيني" كيف أن جندياً أجبر الأم-الشابة على (جرّ) أطفالها (وهم نيام) لكي تغادر، هي وأطفالها، إلى خارج المنزل. وعندما اعترضت على ذلك لدى الضابط-المسؤول الذي "صدمه" المشهد، صرخ على الجندي بلغته، ثم توجه إليَّ وقال: أنا المسؤول هنا، وأمر بإعادة الأطفال إلى أسرّتهم.
أما "البروتوكولات" الخاصة بالتفتيش فهي تأتي تحت عنوان: استباحة كل شئ، بعد أن يتم (تجميع) الآدميين في غرفة محددة تحت رقابة مشددة من جنودٍ؛ يوجهون بنادقهم إلى صدور (أصحاب المنزل)، ليتم "نبش" كل شئ. ومما هالني أن يتم الطرق على كل بلاطة، والطرق على الجدران، والعبث في خزائن الملابس، والتفتيش بين صفحات الكتب. أما الأوراق والمستندات فتصبح في مهب رياح الجنود الذين (منحوا!!) أنفسهم حق الاطلاع على خصوصيات الأسر، أياً كانت درجة تلك الخصوصية، مع التركيز على الأقراص المدمجة، وحتى دفاتر الشيكات تم استباحتها. وأما الهواتف النقالة وأجهزة الحاسوب المحمولة فقد تم (تجميعها واحتجازها)؛ لتصبح في خبر كان.
يتم هذا كله، بموازاة المشهد الآخر، المتعلق بمن يتم اعتقالهم؛ بتعصيب عيونهم و"صلبهم" على الجدران. وبعد مرور ثلاث ساعات، اختتم المشهد بمغادرة الجنود وقد حملوا ما قرروا حمله من بشر، ومواد وأدوات وأجهزة، وأوراق... الخ، دون أي إقرار منهم باستلامه، وألقوا بالباقي على قارعة الطريق.
وعندما تضم هذا المشهد إلى ما جرى ويجري، في مناطق أخرى، تجد أن ما ذُكِرَ أعلاه هو صورة جميلة؛ إذا ما قورنت بما جرى من اعتقال شيوخ-كهول، ونساء، وأطفال، وتخريب مساكن، وتفجير أبواب و/أو خلعها، وسرقة أموال الناس وممتلكاتهم وحاجياتهم الشخصية؛ كما حصل في مخيم الدهيشة ببيت لحم، وبلدة تقوع، وما جرى للفروع الأربعة للصراف عابدين، وغير ذلك من القصص والروايات التي تشير إلى الذعر الذي يعيشه شعبنا على أيدي جنود الاحتلال.
وقد دفعت تلك الأفعال الصليب الأحمر، إلى إصدار تقرير في 18/6/2014، أشار إلى أن "العملیة العسكریة (للاحتلال) الجاریة حالیاً" قد تضمنت تفتیش البیوت؛ بیتاً بیتاً، وشنّ مداهمات لیلیة، واعتقال (المئات)، والاستیلاء على بعض البیوت الخاصة. وتُسفر الاعتداءات والاشتباكات الراهنة عن خسائر بشریة تمثلت في حالات (استشهاد) وإصابات في الضفة الغربیة وقطاع غزة، وتؤدي إلى تفاقم الإحباط، كما "یواجه المدنیون القاطنون في الضفة الغربیة حالیاً قیوداً متزایدة على تحركاتهم وتنقلاتهم، ولم یتمكن الآلاف من أفراد العائلات من زیارة أحبائهم المعتقلین؛ بسبب عملیات الإغلاق الأمنیة".
الأمر الذي دفع مدیر عملیات اللجنة الدولیة لمنطقة الشرق الأدنى والشرق الأوسط، لينادي بالقول: "یجب أن تتوافق العملیات العسكریة، توافقاً تاماً، مع ضرورة احترام حیاة المدنیین، صون كرامتهم وسُبل عیشهم".
من هنا؛ نجد أن الاحتلال، بحكوماته المتتابعة، يسلط علينا جنوداً مشبعون، إلى حد الثمالة، بالفكر الذي بُنيت عليه (دولتهم)؛ وهو أن الشعب الفلسطيني قابلٌ للاستباحة، وأن لا حقوق له في العيش الكريم، وأن أفراده ليسوا من بني البشر الذين يحق لهم النوم والأكل والشرب.
وفي هذا الصدد يقول "بنجامين بوغرند" في مقال له بعنوان "الأبرتهايد.. والحقيقة"، كما ورد في صحيفة القدس (21/12/2013، ص16): "السكان العرب في نطاق الخط الأخطر يعانون من التمييز، والاحتلال في الضفة الغربية هو طغيان". كما ورد في "أوراق إسرائيلية-63" الصادر عن (مدار) بتاريخ 18/6/2014م، أن منظمة "يش دين" ("يوجد قانون") (الإسرائيلية) قد أصدرت في تشرين الأول 2013، تقريراً يفيد بأنه لا يوجد في "إسرائيل" إدانات تأخذ بالحسبان الخطورة الخاصة التي ينطوي عليها ارتكاب مخالفات "جرائم حرب" من طرف جندي ("محارب") ينشط في مقابل سكان مدنيين، كما أن الأغلبية الساحقة من هذه المحاكمات تنتهي بمعاقبة المدانين بعقوبات مخففة على نحو بارز.
النتيجة التي يمكننا الخروج بها تتلخص في: أن السلام مع الاحتلال هو ضرب من المستحيل، والعيش الكريم تحت حرابه ضرب من الخيال، واستحالة "منحنا" حقوقنا في المواطنة على أرض الآباء والأجداد؛ باعتبار أننا (نحن الغزاة!!) وهو صاحب الأرض الأصلي! ويبقى السؤال (المفتوح) على كل الاحتمالات: من سيبقى على هذه الأرض، نحن أم الاحتلال؟
لا شك في أن للإجابة على هذا السؤال (استحقاقات) ضخمة، تضاف إلى الاستحقاقات التي قدمها شعبنا حتى تاريخه. وإلى ذلك الحين، فلنردد معاً، قول شاعرنا أحمد شوقي (توفي في العام 1932):
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وقول شاعرنا-الشهيد عبد الرحيم محمود، في العام 1938:
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا
وقول شاعرنا "أنطون الشوملي-أبو الوليد"، في العام 1934:
فإما حياة الأباة الكرام وإما ممات يروق السماء