مقاطعة الدولة الصهيونية… وثمن يدفعه المرتبطون بها والمتعاملون معها!

محمد عبد الحكم دياب

تصاعدت في الشهور الأخيرة مقاطعة كثير من الهيئات والمؤسسات الغربية للدولة الصهيونية.. وأكثر المكتوين بنار التمييز والعنف الصهيوني هم العرب، وهم من وقع عليهم عدوانها المباشر؛ بدءا بالفلسطينيين، والاستيلاء على أراضيهم وطردهم منها، وتشريدهم، وملاحقتهم في أي مكان عربي يقربهم من حلم العودة.. بدأ التحرش بهم ـ عربيا ـ بعد 1967.. فمصر الرسمية بعد نصر اكتوبر، والانفتاح، وكامب ديفيد، ضيقت عليهم، وأساءت إليهم كثيرا، وبعد حرب الخليج الثانية دفعوا الثمن في الخليج والعراق، إلى أن أصبحوا مستهدفين في سوريا، التي احتضنتهم وعاملتهم معاملة مواطنيها.. وبدأت الأوضاع تسوء مع تطورات الحرب العراقية الإيرانية، وخلالها دُمر المفاعل النووي العراقي في 1981، وطرد الفلسطينيون من لبنان، وذبح عدد منهم في صبرا وشاتيلا 1982، ولوحقوا في تونس بمذبحة حمام الشط؛ بضاحية العاصمة الجنوبية في أول أكتوبر 1985، ونفذتها 8 طائرات؛ قصفت المقر الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وسقط فيها 68 شهيداً واكثر من مئة مصاب تونسي وفلسطيني، وأعترفت تل أبيب بمسؤوليتها عنها فور وقوعها، وبررتها كالمعتاد بدعوى «حق الدفاع عن النفس»!

وبعد سنتين ونصف السنة؛ في نيسان/إبريل 1988.. اغتال جهاز الاستخبارات الصهيوني «الموساد» خليل الوزير (أبو جهاد) بعملية قامت بها مجموعة مكونة من 20 فردا؛ أُنزِلوا من أربع سفن وغواصتين، وقوة مساندة من عدة زوارق مطاطية وطائرتين عموديتين حطتا على «شاطئ الرواد» قرب ميناء «قرطاج»، وتوجهت فرقة الاغتيالات إلى منزل «أبو جهاد» فور عودته إليه، وقتلت حراسته، واقتحمت غرفة نومه وأطلقت عليه وابلا من الرصاص، واستقرت في جسده سبعون رصاصة قضت عليه في الحال.

هذه عينة من العدوان الصهيوني المستمر ضد الفلسطينيين وضد البلاد العربية التي يقيمون فيها، وكاد أن يمتد إلى أبعد من هذا لو لم تفشل تل أبيب – ولو مؤقتا – في تدمير المفاعلات النووية الإيرانية. وما زالت على إصرارها بعد توقيع الدول الكبرى (5+1) وإيران على اتفاق توصلت إليه الأطراف المعنية بهذا الملف.. 

الدولة الصهيونية تتمتع بالتفوق النوعي، وأثره يزيد ويتضاعف بفعل تردي وضعف وتمزق المنطقة، وتفاقم الاحتراب الداخلي والاقتتال العربي العربي، واتساع دوائر الإرهاب، لتغطي مساحات كبيرة من سوريا والعراق وليبيا واليمن والصومال. 

ومن الطبيعي أن تقلق الأوساط الصهيونية والغربية من تنامي المقاطعة الدولية.. بعد أن شملت قطاعات أكاديمية وثقافية وتعليمية.. ومؤخرا مست استثمارات وسلعا وبضائع ومنتجات عدة.. وتستند هذه المقاطعة إلى ظهير مؤثر تمثله نقابات واتحادات وأندية مهنية وجماعات حقوقية وجمعيات أهلية؛ أعادت إلى الذاكرة سنوات نظام الفصل العنصري الأخيرة بجنوب افريقيا حتى تفكك، ولم يبق في العالم إلا آخر نماذجه في فلسطين المحتلة؛ يقف وحيدا منبوذا خارج التاريخ؛ بعنصريته وتمييزه بين السكان.

وتمتع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا قبل سقوطه بالقوة والجبروت، وكان من أقوى النظم الفاشية في خمسينات وستينات القرن الماضي، واحتل المرتبة الثانية في النمو الاقتصادي بعد اليابان، وازدهرت تجارته مع العالم.. وتسابق المستثمرون وتنافسوا في كسب وده والحصول على نصيب من ثروته.. وذلك النظام دخل النادي النووي مبكرا، وشرع في ذلك من 1950 بمعونه أمريكية طورت إنتاجه من اليورانيوم. واحتل في 1957 المركز الرابع في قائمة الدول التي تشملها اتفاقية الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية؛ وحصلت «بريتوريا» في 1960 على «مفاعل سفاري» (أمريكي)؛ مكنها من إقامة البنية الأساسية اللازمة التي وضعتها في مصاف الدول المالكة للطاقة النووية، فتحولت إلى قوة ردع لا تنازع.. وذلك التطور جاء مواكبا للمجهود الصهيوني لبناء قوة نووية صارت الوحيدة في محيط محاصر بقوى إقليمية ودولية اتفقت على تجريد العرب من مصادر قوتهم وثروتهم وسلاحهم!!.

ومع سيطرة الخوف واليأس على حكومة «بريتوريا» العنصرية، فقدت صوابها، وألقت القبض على نيلسون مانديلا؛ زعيم «المؤتمر الوطني الافريقي» في 1964.. قبيل ساعات من سفره للقاهرة للقاء الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.. ثم حُكم عليه بالسجن مدى الحياة!. 

ومع ذلك تغيرت الموازين وحصدت المقاطعة ثمارها.. وفرض المجتمع الدولي عقوباته على «بريتوريا»، فتوقفت الإمدادات العسكرية الأمريكية، وتقلص دعم واشنطن العلمي والتقني لبرنامجها النووي، ومضت الحكومة العنصرية في تطويره؛ تحسبا لعزلة دولية متوقعة حينها، وحافظت على سلاحها الذري كرادع أمام خطط محتملة بضربات عسكرية ضدها، هذا بجانب وجود رغبة ملحة من «بريتوريا» للاحتفاظ باليورانيوم بعد انتشار تقارير تفيد بنقص المخزون العالمي آنذاك.

وبدأت الرياح المعاكسة تهب في غير صالح الحكم العنصري.. وبدأت التداعيات في بداية 1974 مع انسحاب البرتغال من موزنبيق وأنغولا، وترتب عليه اضطرار جنوب أفريقيا إلى الانسحاب من أنغولا في مطلع 1976؛ تحت وطأة ضربات الثوار وبسبب فشل قواتها في الحيلولة دون وصول الثوار إلى السلطة وقتها.

في عام 1978 «شعر بي دبليو بوثا»، وقد أصبح رئيسا للوزراء وكان وزيرا للدفاع؛ شعر بأن الأرض تميد من تحت قدميه مع وصول المساعدات السوفيتية للثوار، وبدأ الاقتصاد يعاني الركود. ويعود ذلك إلى الإنفاق الكبير على حماية «المناطق العرقية المستقلة» أو «الكانتونات»؛ وكانت قد أنشئت لإبعاد السكان الأصليين عن مناطق البيض، وثبوت ضعف جدواها الاقتصادية.

تتكرر الصورة، وها هي الموازين تتجه نحو الاعتدال، وتكتسب دعوات الحركات المناهضة للفصل العنصري الصهيوني زخما في الولايات المتحدة وأوروبا؛ ما أشبه الليلة بالبارحة؛ بالأمس انسحبت شركات أمريكية وأوربية كانت الداعم الأعظم للعنصرية الأفريقية، ثم طالبت بإطلاق سراح نيلسون مانديلا. واعتبر المجتمع الدولي «جنوب إفريقيا» دولة مارقة، ونشط في حركة سحب الاستثمارات منها!.

والفرق بين الحالة الإفريقية والحالة العربية والفلسطينية هو أن النظام العنصري في جنوب إفريقيا كان محاطا بظهير من الانتفاضات والثورات، التي لا تتوقف، وتتلقى الدعم والمتطوعين من جيرانها ومن قوى التحرر والاستقلال المؤثرة في تلك الحقبة. وفي حالة فلسطين فالعكس هو القائم.. فحصارها تتولاه حكومات مجاورة؛ كبلت نفسها ـ ولم يكبلها أحد ـ بكامب ديفيد ووادي عربة.. وتورط الفلسطينيون في أوسلو.. ومن لم يتكبل أو يتورط هرول بحثا عن ارتباط سياسي ومالي وتجاري وإعلامي، ومن الصعب أن تجد حكما عربيا – مدنيا أو دينيا ـ ليس على علاقة بتل أبيب.. وعندما تحين لحظة الحقيقة من المتوقع أن يدفع هؤلاء ثمن ما جلبوه لشعبهم وأمتهم.. وحين «ينفض المولد الصهيوني» ستقفز فئران كثيرة من السفينة بحثا عن ملاذ آمن!

والتصريح بغياب الظهير البشري والعمق الجغرافي لفلسطين، ليس لبث روح اليأس.. و«الظهير الغائب» من السهل استحضاره، وتوفره حركة شعبية جامعة داخل الوطن وخارجه؛ تضغط في اتجاه المقاطعة وعزل المطبعين وصهاينة الداخل والخارج.. وهذا يحتاج إلى جهود شابة ومكثفة.. والظرف رغم قسوته أراه مواتيا! فصوت المواطن في مصر وتونس وفلسطين ولبنان والعراق صار مسموعا ومؤثرا، والسمة الغالبة على المجتمع هي تحرره من الخوف.. وثقته في عدم عودة عقارب الزمن إلى الوراء.. 

هل تصلح هذه دعوة للالتفاف حول هدف إحياء المقاطعة العربية.. والاتساع بدوائرها لتغطي العالم كله؛ اللحظة مناسبة.. وفي القرن الماضي ضرب المهاتما غاندي زعيم الهند التاريخي لنا مثلا، بدأ مقاومته من جنوب افريقيا.. وقت اشتغاله بالمحاماة هناك؛ استفزته التفرقة العنصرية.. فخلع ملابسه الغربية وغزل إزاره وأنتج حليبه وخبزه وطعامه بيده، وسار الهنود على خطاه، فهزموا أكبر امبراطورية شهدها العالم؛ «لم تكن تغيب عنها الشمس».. وكانت الهند فيها درة تاجها، وتحولت إلى عبء بعد توقف وصول المواد الخام إلى محطات ومواني ومصانع بريطانيا العظمى، وهذا ما فعلته المقاومة الهندية، التي أنهت الاحتلال.. فهل تجد هذه الدعوة قبولا؟

أتمنى ذلك!

وسوم: العدد 631