الفجوة الثقافية
لمَ هذا التأكيد كله للثقافة؟! فمرة نتحدث عن الغزو الثقافي الذي يمتد في فراغنا، ومرة عن تعريف الثقافة وأنواع الثقافات، ومرة نحرّض أهل الخير والسعة أن ينفقوا في مشروعات الثقافة الإسلامية؟!.
والجواب هو أن ثقافة الأمة هي هويتها، هي قيمها وأخلاقها ومفاهيمها. فلا عجب أن نسلط الضوء اليوم على خلل ثقافي في الصف الإسلامي.
نلحظ، فيما نلحظ، لونين متباينين من ألوان الثقافة في التجمعات الإسلامية، إلى جانب ألوان أخرى:
اللون الأول، وهو الذي نسميه أحياناً بـ "الثقافة المشيخية" وأصحابه يهتمون بالعلوم الإسلامية تجويداً وتفسيراً وعقيدة، وفقهاً وأصولاً.. ونحواً وصرفاً وبلاغة.. وينهلون من نتاج علماء هذه الأمة في صدر الإسلام وما أعقبه من قرون.
واللون الثاني، وهو ما نسميه بالثقافة العصرية. وأصحابه يُعنَون بالسياسة والإعلام والاقتصاد والإدارة والتنظيم.. مع قراءات إسلامية فكرية عامة، لا ترتبط عادة بأحد العلوم الإسلامية.
أصحاب اللون الأول يتصفون عادة بالسلوك الإسلامي المحافظ، ويؤكدون معاني التقوى والخلق، وتذكّرنا أقوالهم وأفعالهم بسيرة الصالحين من هذه الأمة... لكنهم لا يكادون يعيشون عصرهم. قد يحسنون الردّ على شبهات المعتزلة والخوارج أكثر مما يحسنونه على شبهات الشيوعيين والوجوديين و"الليبراليين"... ويحفظون الأحكام الشرعية لمسائل عاشتها الأمة في سابق عصورها.. فإذا سئلوا عن مشكلات حدثت في العصور المتأخرة ويعيشها المسلمون اليوم، وقفوا حائرين، أو حاولوا أن يقيسوا مشكلات اليوم على مشكلات القرون الأولى، لينقلوا أحكام هذه إلى تلك.
وأصحاب اللون الثاني تهيمن عليهم مشكلات العصر، وثقافته، ورؤاه... فهم يجهدون في متابعة المتغيّرات في عالم السياسة والفكر والتكنولوجيا.. ويتألمون لتخلف المسلمين، ولما يتعرضون له من ظلم، ويحاولون أن يصِفُوا الدواء لأدواء الأمة. لكنهم، لقلة بضاعتهم من التحصيل الشرعي، يفكرون بأسلوب الثقافة الغربية، ويحللون الوقائع، ويترسمون خطى المستقبل.. من منظور هذه الثقافة.. ويقنعون أنفسهم أنهم على الحق والخير والصواب ما داموا يحبون الإسلام، ويعملون لأجله..
وينظر أصحاب اللون الأول نظرة تشكك في توجهات الفريق الآخر وفي اجتهاداته. إذ كيف يطمئنون إلى هذه التوجهات والاجتهادات، وأصحابها ذوو بضاعة مزجاة في علوم الشرع. لا يكاد أحدهم يحسن تلاوة القرآن وتجويده، فضلاً عن معرفته بالفقه وأصوله، والحديث وعلومه... وهي من أهم مكونات العقل المسلم والفكر المسلم والشخصية المسلمة.. فكيف إذا رافق ذلك كله ترخّص واضح في السلوك الفردي؟!.
أما الفريق الثاني فهو كذلك معجَبٌ بما عنده، يرى الآخرين متخلفين في فكرهم، قد يصلحون لإمامة الصلاة، والفتوى في شؤون العبادات، وفي قضايا الزواج والطلاق والميراث... أما ما وراء ذلك فهم يجهلون الواقع، فكيف يوثَق بتقويمهم له، واجتهادهم في معرفة حكم الله فيه؟!.
وهكذا تتسع الشقّة، ولا يلتقي طرفاها إلا على مجاملات، أو أحاديث خفيفة، أو في مسائل قليلة تمثل اهتمامات مشتركة بينهما.
وقبل أن نسترسل في الحديث، نقرّ أنه إلى جانب هذين اللونين توجد ألوان أخرى تجمع من هذا اللون وذاك، وأنه قلما يخلو أحد أصحاب الثقافة المشيخية من اطلاعات واهتمامات تدخل في اختصاص الفريق الثاني، وكذلك نقول في أفراد الفريق الثاني.
ومع ذلك تبقى الفجوة قائمة: فريق من دعاة الإسلام قليلو البضاعة في معرفة أحوال العصر وعلومه ومعارفه وقيمه ومفاهيمه... وفريق آخر فقير في الزاد الشرعي.
فالفريق الأول عاجز عن توظيف علمه الشرعي في علاج مشكلات المجتمع، لجهله بماهيتها، وبُعده عن التعامل مع وسائلها... فهو كمن يملك رصيداً من الأدوية لكنه يجهل حالة المريض.
والثاني يفكر ويصول ويجول، ويحلل الواقع، ويصف العلاج.. على غير هدى من الشرع، وهو يحسب أنه في بحبوبة الدين وبؤرته... فإذا وُوجه بنص من الكتاب أو السنة.. تصدى لتأويله بما يتفق مع فكرته. فبدل أن يكون تابعاً للنص، يريد أن يجعل النص تابعاً!!.
يلتبس في أذهان الفريق الأول – أحياناً – الفرق بين ما هو دين يجب التمسك به والدفاع عنه، وبين ما هو ملابسات عصر، واجتهاد يحتمل الصواب والخطأ...
وتهيمن على فكر الفريق الثاني مواضعات العصر، وقيمه، ومفاهيمه، ومصطلحاته... فيجهد لعرض الإسلام وقضاياه بما يرضي أذواق الناس والثقافة السائدة في مجتمعهم.. من غير تمحيص لما يحمد الشرع مراعاته من ذلك، وما يسقطه من اعتباره...
هل المراد إذاً أن يكون الداعية موسوعياً يحيط بعلوم الشرع وعلوم العصر؟! وأين من يستطيع أن يحيط بعُشر علوم الشرع أو عشر علوم العصر، فضلاً عمن يحيط بها جميعاً؟!.
ليس هذا ما نريده، إنما نريد من كل فريق ألا يفرح بما لديه، أو يستغني به عما لدى أخيه، بل يوسّع أفقه، ويزيد من اطلاعاته في ميادين شتى، ويتعمق في اختصاصه... ليجمع بين عمق الاختصاص وسعة الاطلاع، ويردم الفجوة القائمة.
ولعلّ ما صار يُعرَف بالاجتهاد الجماعي، يشكّل ردماً للهوّة المُشار إليها، وهو ما تقوم به المجامع الفقهية، حيث يجتمع علماء من مختلف الاختصاصات الشرعية ليتعرفوا إلى حكم الله تعالى في بعض المسائل المستجدّة، فيشترك معهم، حسب القضية المدروسة، علماء في الطب أو الكيمياء أو الاقتصاد... ويُدْلي كل منهم بما عنده وما يتعلّق باختصاصه، ويُشبِعون المسألة بحثاً ودراسة.
ولسنا نزعم أننا وفّينا الموضوع حقه تشخيصاً وعلاجاً، ولكن حسبنا أننا نبهنا وأشرنا (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).
وسوم: العدد 632