أَقِلُّوا اللومَ على اللاجئين السوريين
السوريون كغيرهم من شعوب الأرض يعشقون الحياة، و يلثمون تراب أرضهم، و حُقَّ لهم أن يبحثوا عن عيش كريم يليق بإنسانيتهم؛ غير أن ما حلَّ بهم على ما ينيف عن أربع سنوات من عمر ثورتهم جعلهم يبحثون عن مخرج لهم و لو في عُباب البحار، و براري أوروبا، و فيما وراء البحار شرقًا باتجاه أستراليا و نيوزلندا، و غربًا باتجاه الأمريكيتين.
و لقد زادت أمواج الهجرة من سورية في الفترة الأخيرة لعدة أسباب، منها:
1ـ تأخرُ الحسم، و البطءُ في إيجاد سُبُل حلِّ قضيتهم؛ فملَّ الذين كانوا على شفا حفرة، حيث لم يكونوا مع النظام، أو ضده؛ فهؤلاء غير معنيين بالثورة، و جلّ همهم تدبير معيشتهم بأية طريقة كانت، فليس لهم همٌ آخر سوى الهمّ الشخصي، الذي نما و تجذر في ظل خمسين سنة من حكم البعث الطائفي، الذي غرس في نفوس السوريين ( حبّ الأنا ) بطريقة شبقيّة فاقت مفهوم هذه الكلمة اللغوي أضعافًا كثيرة.
2ـ السعيُ المصلحي الغربي البراغماتي؛ من أجل تفريغ سورية من كوادرها، و طاقاتها العلمية و المهنية، الجاهزة للانخراط في العمل مباشرة، بعد الخضوع لدورة يسيرة في اللغة المحلية لتلك البلدان.
و مخطِئٌ من يقول: لو عالجت أوروبا المشكلة السورية من أول الأمر لما وجدت نفسها في مواجهة مع مشكلة اللاجئين السوريين. فهؤلاء لا مشكلة لديهم تجاه مثل هذه الحالة، فهم دول مستقبلة للمهاجرين بشكل دائم؛ لتعويض النقص الحاصل في عدد السكان لديهم، نظرًا لتدني نسبة الولادة، و نفور نسبة منهم من الالتزامات الأسرية، و الجنوح باتجاه الزواج المثلي. إنهم مخططون لذلك، و يعملون من أجله، و مستعدون له.
3ـ تهيئة الأجواء للحل السياسي البعيد عن المعايير الأخلاقية، فهناك مبادرات سياسية أصبحت حبال أشرعتها تطلق في مهب رياح سورية الخريفية، و يرى هؤلاء المتابعون للحالة السورية ضرورة إيصال السوريين إلى درجة من اليأس و القنوط؛ من أجل حملهم على قبول هذه الأفكار و المبادرات لحلّ عُقَد قضيتهم، و من كان منهم من الصنف المصلحي، أو من ضيقي الأفق سيجد فرصته في الهجرة التي يُسرت له بشكل مريب، فهذه فرصته المثلى كي يترك ( الجمل و ما حمل ) و يدير ظهره لسورية ( شعبًا، و قضيةً، و أرضًا )، على مبدأ ( خلي اللي يشيل يشيل ).
4ـ انحراف الثورة عن مسارها المحلي؛ فبعد أن كانت ثورة شعبية يشارك فيها الجميع، هدفها إزالة ظلم دولة البعث الطائفي؛ إذا بها تتحول إلى حروب مشاريع بالوكالة، و قد بلغ الأمر زباه عندما تسلّط الغلاة من المهاجرين على رقاب السوريين في المناطق المغصوبة، فجعلوهم يبحثون عن مهرب لهم و لو خارج الحدود، في بلاد الكفرة المحاربين ـ على حد وصفهم ـ
قد يطيق المرءُ الصبرَ ظلم مواطنه، غير أنه لا يطيقه من الأوشاب الغرباء، من أتباع دولة الآباء، الذين أدخلوا السوريين في مجاهيل الحروب بالوكالة.
5ـ وقوع أخطاء من أناس حَسَبُوا أنفسهم على الثورة، لقد وجد هؤلاء أنفسهم في فضاء بعيد عن القبضة الأمنية التي كان نظام الأسد يبسطها عليهم؛ فأصيبوا بحالة من هستريا الحرية، فأخذوا الأمور بقوة السلاح الذي ما كانوا يحلمون بالنظر إليه، فكيف و قد غدت شتى صنوف الأسلحة طوع بنانهم، لقد أفرغوا فائض القوة لديهم بأبناء جلدتهم، الذين كانوا و هم على مقاعد النظام على مدى نصف قرن من الزمان.
لقد أحال هؤلاء الثورةَ جعبةً مملوءة بالمصالح الذاتية الضيقة، على حساب عذابات السوريين، فغدت جنةً لها بابٌ باطنُه فيه المنفعة لهم، و ظاهرُه فيه التشبيح، و التجوييل، و التحزبات، و المناطقية، و العائلية لغيرهم. و كلُّ رأسمالهم في ذلك الخروج مبكرًا في المظاهرات، و حمل السلاح و الخوض في غمار المعارك و لو من باب التصوير.
لقد جعل هؤلاء ممّن شاطرهم آلام ظلم النظام فئرانَ تجارب لبناء الدولة التي يظنون أنهم سيبنونها على مقاس مصالحهم؛ الأمر الذي جعل أولئك يترحمون كما يقال ( على النباش الأول ). فكان خيارُ الهجرة إلى ألمانيا أريحَ الخيارات؛ و لو كلفهم بيع السيارة، أو رهن البيت، أو بيغ الأرض، أو مصاغ الزوجة.
6ـ غياب القدوات الصالحة، المصابرة، و المرابطة داخل سورية من العلماء الربانيين، ذوي الاعتدال في الرأي، و الوسطية في التفكير؛ فشاع الفساد في التدين، و التفكير، و غدا الرويبضة يتكلم في الناس، و يفتي في مسائل كان هو أبعد الناس عنها، و عن سلوك طريق تعلمها، و مجالسة علمائها، لقد انخدع هذا المسكين بقول الناس له: ( الشيخ فلان، أو الحجي فلان )، و ما درى أنه يقودهم إلى المهالك بسب ضحالة علمه، و بُعد فتواه عن منهج السلف الصالح.
7ـ غياب الشخصيات القيادية، و الكاريزمية عن قيادة الثورة، خارج أسوار الوطن، مفضلين عيش الفنادق على مرابطة الخنادق، فكثر الهمس بحقهم، و كيلت التُهم لهم، بأنهم ليسوا ثوارًا بل حرامية يعتاشون على عذابات أهلهم، و أبناء وطنهم.
هذه الأمور، و غيرها قادت السوريين إلى اليأس و الهجرة؛ فلا تُعنتوا عليهم أنفسَهم، و أَقِلُّوا اللومَ عنهم.
وسوم: العدد 632