ستة أسباب رئيسية للاندفاعة الروسية الجديدة في سوريا
مفاجأه (بالفتح) غير مفاجئه (بالكسر) إذا صح التعبير. هذا ما يمكن أن توصف به دون إفراط أوتفريط الهجمه الروسيه الجديده في الساحه السوريه.
لأسابيع خلت، كانت كثير من الدوائر الأمريكيه والأوروبيه بما فيها الرئيس الأمريكي أوباما ذاته تطلق تسريبات إعلاميه وسياسيه فحواها أن الروس في طريقهم إلى قبول تسويه سياسيه في سوريا تبدأ بمرحله إنتقاليه يخرج في بدايتها أو وسطها أو نهايتها (الامر غير محدد) بشار الأسد والطغمه الضيقه المحيطه به من كبار العسكريين والمسؤوليين الآخرين والتي وسعت دائرة القصف والقمع والقتل والقهر المادي والنفسي على عموم الشعب السوري.
لكن النقله السياسيه أو الدبلوماسيه الروسيه المثيره تمثلت بتصريحات وزير الخارجيه سيرغي لاڤروڤ المشدده على أن بشار الأسد رئيس شرعي منتخب وأن حكومته شرعيه وبالتالي فموسكو ستقف معه ومعها إلى النهايه والأولويه يجب أن تعطى في رأيه لرأس الإرهاب داعش مما يصب الماء في طاحونة المبادره البوتينيه والتي سيطرحها على الأرجح رسمياً في خطابه المقبل في الثامن والعشرين من سبتمبر أيلول الحالي أمام الجمعيه العامه للأم المتحده في نيويورك، هذه المبادره التي يدعو من خلالها الرئيس الروسي بوتين إلى قيام تحالف يضم روسيا وإيران والنظام السوري والولايات المتحده والسعوديه والأردن وحتى تركيا لمحاربة الإرهاب المتمثل في رأيه بداعش فقط لا غير متناسياً هو ووزيره أن جذر الإرهاب ، جذر الشجره الخبيثه للفساد والإستبداد والإرهاب، وكل القذارات يكمن في النظام التوتاليتاري الشمولي الأسدي، وتاريخه الأسود الطويل في هذا المجال يمكن سوق ألف دليل ودليل عليه ولا يخفى حتى على تلاميذ الإبتدائي في سوريا والعالم العربي، فكيف يمكن أن يخفى على قيادات روسيه أو قيادات عالميه….
هذه الإندفاعه السياسيه التي مثلها لاڤروڤ أعقبها بعد أيام قلائل الإندفاعه العسكريه التي بدت مفاجئه للكثيرين في العالم. لكن هزالة الرد الأمريكي عليها يكشف على الفور أن للأمر خبيئ كما يقول المثل العربي، وأنه ليس هنالك بالمعنى الحقيقي للكلمه مفاجأه.
لكن السؤال يبقى ماهي الأسباب الرئيسيه التي دفعت الروس إلى هذه الخطوات الهجوميه السياسيه والعسكريه والتي بدت للكثيرين أنها إنعطافه مثيره قياساً بالتصريحات السابقه التطمينيه للمسؤولين الروس وخاصةً ذلك المكلف بالملف السوري بشكل محدد (والتي كانت وكما يبدو من باب المخادعه والتضليل لمجموعات مؤتمرات موسكو والأستانه والقاهره .
فما هي الأسباب الرئيسيه ياترى لذلك ؟
هنالك في رأينا ستة أسباب : ثلاثة أسباب قديمه وثلاثة أخرى جديده
الأسباب القديمه للإندفاعه الروسيه الحاليه
١ً- هنالك أولاً المصالح الروسيه التاريخيه في سوريا وقبلها المصالح السوڤييتيه والمتمثله بالتفرد تقريباً بكل تسليح الجيش السوري وقوات الأمن والدورات التدريبيه للضباط السوريين في الأكاديميات العسكريه الروسيه. كان ذلك قرار الشعب السوري منذ الاستقلال حين كسر السياسي الوطني خالد العظم إحتكار السلاح الغربي وذهب لعقد أول صفقة أسلحه من تشيكوسلوڤاكيا حيث لقبته الصحافه آنذاك “بالمليونير الأحمر”. صفقه تلاها صفقات هائله من الاتحاد السوفيتي واستمر الأمر كذلك وتصاعد حتى المرحله الأسديه أذ أضيف إليها القاعده البحريه الروسيه في ميناء طرطوس على البحر المتوسط وبعض الإستثمارات الأخرى. إذن هنالك مصالح بالمليارات لروسيا في الساحه السوريه، ولا يمكن لها أن تتخلى عنها بسهوله وتنسحب تاركة الأمر لغيرها كي يعبئ الفراغ.
٢ً- الموقف الغربي عموماً والأمريكي خاصة في الصراع العربي الإسرائيلي. فقد كان موقف الإدارات الأمريكيه المتعاقيه (جمهوريه أم ديمقراطيه) منحازاً بشده لإسرائيل فيما كان الموقف السوفيتي مع التسويه وإعادة الأراضي العربيه المحتله الجولان والضفه وغزه والقدس وسيناء لأهلها. مما خلق إرتباطاً دبلوماسياً وسياسياً قوياً بين الدول العربيه خاصة مصر وسوريا والعراق مع الدبلوماسيه الروسيه.
هذا التوافق السياسي وليس التطابق في الموقفين العربي والروسي في الصراع في الشرق الأوسط فتح أمام الروس قسماً مهماً من الفضاء السياسي العربي، خاصةً في سوريا ومصر (حتى وصول مبارك) وليبيا واليمن والجزائر والعراق. وكانت سوريا متأثره أكثر من غيرها بهذا العامل بإعتبارها من دول الطوق القريبه، واستمر الحال على هذا المنوال حتى الأمس القريب.
٣ً- الخوف التاريخي من قبل الإتحاد السوفيتي من الإسلام والذي تحول مع الاتحاد الروسي خاصةً، بعد ظهور القاعده ومؤخراً داعش تحول إلى رعب أو حتى رُهاب. تحول إلى رعب حقيقي غير معلن عند القياده الروسيه الحاليه وإن أحداث الشيشان خاصةً وتدمير عاصمتها غروزني التي حولها الروس إلى أطلال تنعق فيها الغربان، كانت شاهداً على عنف رد الفعل الروسي وخوفه من أي تحرك للشعوب الإسلاميه الواقعه تحت سيطرت موسكو وحساسيتها المفرطه تجاه الإسلام السياسي.
إن جرح أفغانستان أغلق لكنه لم يلتئم تماماً بعد في قلوب القاده السوفيت والروس.
ويتضح هذا الأمر أكثر إذا علمنا أن هنالك نحو ثلاثين مليون مسلم في روسيا إضافة إلى كازاخستان وطاجكستان وأذربيجان وأن دولة مثل كازاخستان مثلاً هي دولة نوويه كانت تقاسمت مع روسيا ترسانة الأسلحه الموروثه عند تفكك الاتحاد السوفيتي. كل ذلك ومهما تظاهر القاده الروس بعكسه يشكل هاجساً حقيقياً لهم لدرجه أن ديلوماسياً روسياً رفيعاً أسر لمسؤولين غربيين أن موسكو تحس بالخطر الإسلامي المتطرف أكثر بكثير من أمريكا. فأمريكا بعيده متواريه وراء المحيط الأطلسي. أما روسيا فهي مهدده في مصالحها وفي كينونتها والمسأله تمس الأمن القومي الروسي مباشرةً.
كل ذلك يأتي ضغثاً على إبالة الموروث العقائدي السوفيتي الماركسي اللينيني المعادي للأديان بشكل عام على إعتبار أنها أفيون ومخدر للشعوب !!!؟
المصالح القديمه التي برزت بعد إنتهاء الحقبه السوفيتيه بين المافيا الروسيه والمافيا السوريه و تحديداً المافيا الأسديه، فهنالك رجال أعمال سوريون كثيرون منتشرون في أوروبا الشرقيه منذ سنوات في براغ وبلغراد وكييف وموسكو قريبون من النظام السوري الحالي وعلى علاقه مع شركات روسيه كبرى ومع رجال أعمال روس قريبين من النظام الروسي الحالي. هذه العلاقات خلقت شبكه مصالح إقتصاديه هائله خاصة في العشرين سنه الأخيره لدرجة أنه بات في شبه المؤكد أن مليارات آل مخلوف والتي يتربع على عرشها محمد مخلوف والد رامي وخال بشار الأسد هي الآن في روسيا في قسمها الأعظم، وفي دبي في قسمها الباقي.
ولا يخفى على أحد أن هنالك طبقه من المليونيريه الجدد الروس ظهرت بعد إنهيارالإتحاد السوفيتي وبعض منهم على علاقه وثيقه مع الكرملين ويلعبون دوراً في السياسه الروسيه لا يستهان به وهم على علاقه مع المليونيريه الجدد في سوريا.
الأسباب الجديده
أكثر ما تقدم معروف في خطوطه العريضه للعديد من المراقبيين والمهتمين بالشأن السوري لكن ما يفسر الهجمه الدبلوماسيه العسكريه الروسيه الحاليه بشكل أوضح هي الأسباب الجديده وأهمها ثلاث :
١ً- الفراغ الامريكي خاصة والغربي عامة في سوريا والمسألة السورية، فقد بات واضحا لكل ذي عينين أن الولايات المتحدة في ظل الادارة الحالية برئيسها باراك أوباما غير معنية أبدا بشكل جدي بالكارثة السورية و لهذا أسباب تتعلق بالجغرافيا السياسية والصراع العربي-الاسرائيلي وحفظ أمن اسرائيل الذي قال عنه أوباما في مقابلة حديثة مطولة مع صحافي اميركي أنه “أمر مقدس” لاحظ التعبير وقوة الإيحاء) أسبابه الحقيقية هذه لكن هنالك أسباب تتشبث بها الادارة الامريكية لا تقنع أحدا أهمها مغامرتي أفغانستان والعراق الفاشلتين وتعقد المسألة السورية وظهورالتطرف الاسلامي في الحراك الشعبي السوري و ضعف المعارضة وهلم جرا…
وكل هذه لدى معاينتها بدقة تبدو في الحقيقة تعلات وأعذار و حجج واهية هدفها التضليل والتغطية على الاسباب الحقيقية للانسحاب الامريكي من المسألة السورية . الإنسحاب الأمريكي خلق فراغاً هائلاً في سوريا، وعلى اعتبار أن الطبيعه لا تسمح بالفراغ فقد اندفع الروس بقوة لملء الفراغ الناجم عن هذا التنصل الامريكي السياسي وذلك بشكل متدرج وصولا إلى الهجمة الحاليه. ولعل الكثيرين لا يزالون يذكرون نظرية ملء الفراغ في الشرق الاوسط التي كان طرحها الرئيس الأمريكي آيزنهاور في الخمسينيات من القرن الماضي و التي تقضي بقيام الولايات المتحدة بملء الفراغ الناجم عن انسحاب الامبراطوريات القديمة والاستعمار القديم الانكليزي و الفرنسي و الايطالي من المشرق العربي و دول الخليج و المغرب
التاريخ- نعم – يكرر نفسه لكن بأشكال وأدوات أخرى.
السبب الثاني :
ظهور تيار متعاظم يوما بعد يوم في الساحل السوري في الحاضنة الشعبية المؤيدة لنظام الأسد تحس بشيء من الريبة و التخوف من تزايد الوجود الايراني في الساحة السورية، لأسباب مذهبية ولسبب آخر أهم هو أن النظام الايراني الحالي غير مضمون البقاء و معرض للسقوط عند أول هزة قوية وما الثورة الخضراء قبل عشر سنوات التي قادها الزعيمان الإيرانيان الاصلاحيان : مهدي كروبي وحسين موسوي وما أعقبها من تحركات شعبية واسعة مناوئة خاصة لدى شرائح الفقراء و الشباب ببعيدة عن الأذهان. وبالتالي فالمراهنة على إيران ربما يتبين أنها خاسرة على المدى الاستراتيجي.
بينما في المقابل تبقى روسيا دولة عظمى وأكبر دولة في العالم من حيث المساحة الجغرافية ومن إحدى أكبرها على الصعيد الديمغرافي بثرواتها الواسعة من الغاز و المعادن وترسانتها العسكرية الهائلة تبقى روسيا هذه حتى في حال تغير نظام بوتين مضمونة أكثر بكثير و بالتالي فإن الرهان عليها أفضل و أضمن. وقد التقطت روسيا هذه الاشارات بسرعة وقامت باندفاعتها الحاليه الدبلوماسية -السياسية -العسكرية. وقد قوى هذا الاتجاه الإمتعاض الروسي غير المعلن من إيران بعد توقيع الاتفاق النووي مع الغرب واختفاء الشعارات المنددة بأميركا من الساحات العامة في طهران والتصريحات المتواترة التي ذهبت بعيدا في عملية فتح الأذرع الإيرانية والحضن الايراني أمام الشيطان الأكبر الولايات المتحدة.
هذا لا يعني أنه سيكون هناك تصادم جبهي مباشر بين النفوذ الروسي والنفوذ الايراني في الساحة السورية ولكنه بداية تباين وافتراق ربما يتحول مع الزمن الى نزاع وخلاف.
وقد لعب في بلورة هذا التيار الروسي في الحاضنة الشعبية للنظام على حساب التيار الايراني قدامى اليساريين والماركسييين وبعض المليونيرات الجدد من رجال الاعمال ذوي الاستثمارات الكبرى في دول أوروبا الشرقية وكل هذه المعلومات دقيقة ومستقاه من مصادرها الأصليه.
ومن هنا كان الاسراع الذي هو أقرب إلى التسرع في إعطاء استثمارات النفط والغاز في الساحل السوري لشركات روسية و اسراع الروس في المقابل في توسيع و تطوير القاعدة البحرية لهم في طرطوس وتحويل مطار اللاذقية الى مطار عسكري و زيادة عدد المستشارين الروس وتكثيف التعاون العسكري مع النظام السوري
٣ً- أما العامل الجديد الثالث فهو أقرب لأن يكون على شكل تساؤل أو استفهام ونشرح:
يرى عدد من المتتبعين و الفاعلين في المسألة السورية أن الاندفاعة العسكرية الروسية الحالية لا تعني الاستعداد للذهاب إلى الحرب في سوريا بل على العكس الاستعداد للذهاب إلى السلام و بتعبير أدق إلى التسوية السياسية الكبرى للمسألة السورية وربما في الاقليم برمته إذ يعتقد هؤلاء أن القوى العالمية الفاعلة أمريكا و الغرب واسرائيل واللوبي المؤيد لها قد استنفذت أغراضها كلها تقريبا وهي المتمثله بتدمير سوريا ومنعها من النهوض من الآن و حتى خمسين سنة قادمة على الأقل وأن أمن الدولة العبرية صار مضمونا بنسبة كبيرة للغاية وأن كل أطراف النزاع الداخلي في سوريا قد أستهلكت قواها و تضعضعت تماما وبالتالي صارت البيئة الاجتماعية والنفسية والسياسية ملائمة تماما للشروع في تسوية سياسية تلبي الحد الأدنى من مطالب مختلف الأطراف.
فهل كان الروس في قلب المطبخ السياسي العالمي الذي أنضج هذه المعادلة ؟ أم أنهم استشعروا ذلك و أحسوا به تماما فبادروا إلى هذه الاستدارة الدبلوماسية العسكرية المثيرة وبالتحديد لأنهم يريدون أن يذهبوا إلى التسويه والتي لن تكون بالطبع سوريه-سوريه فقط بل سورية _ إقليمية _ دولية_ يذهبون وفي أيديهم أوراق قوه تضمن لهم مصالحهم : قواعد بحرية ومطارات وخبراء عسكريين وأسلحة يعرفون وحدهم أسرارها … الخ
أمر شديد الاحتمال
في افتتاحية صحيفة اللوموند الفرنسية المكرسه كلها لسوريا عدد الجمعة 18 أيلول سبتمبر الحالي عبارات ربما تفسر إلى حد بعيد الكثير مما تقدم.
جاء في افتتاحية الصحيفة الشهيرة :
“إن سوريا هي آخر نقطة ارتكاز للوجود الروسي في المشرق العربي بعد ضياع ليبيا والعراق من يد الروس ولا يمكن أن تتخلى عنها موسكو بسهولة فهي ستحاول أن تعض عليها بالنواجذ كما ان سوريا تؤمن لروسيا نقطة الوصول الوحيدة في المشرق العربي الى المياه الدافئة _البحر الابيض المتوسط_
ذلك الحلم الروسي القديم منذ أيام القياصرة وهي لن تتخلى عن هذا الدفء المتوسطي بسهولة، قبل أن تختم صحيفة اللوموند بالقول :
لا يمكن أن تحصل ولأسباب كثيرة أي تسوية في سوريا بمعزل عن الروس وفي غياب روسيا وبالتالي فحضورها اليوم في المسألة السورية
وبهذه الوتائر المتسارعة والمتصاعده له ما يبرره أو بالأحرى…مايفسره.”
وسوم: 638