أين الإعلامي من ديوان الإنشاء ؟!
وزعموا أن القاضي الفاضل والعماد الأصفهاني وابن شداد
كانوا شركاء النصر مع صلاح الدين
حقا ما ترويه العرب عن الشاعر الفارس سلامة بن جندل الطهوي ، عندما قصده قومه قائلين : امدحنا يا سلامة ، قل فينا ما يقول الشعراء في أقوامهم، فأجابهم بكل الوقار والثقة والهدوء : يا بني تميم افعلوا حتى أقول .
والإعلام أو الإعلامي لا يمكن أن يكون ناجحا بإطلاق فقاعات من الوهم والاختلاق ، أو النقل عن واهم مختلق ، ولكنه يمكنه أن يكون حافزا على نحو ما اعتنق المتنبي سيف الدولة فصنع معه أو به أو له وللأمة من ورائه الملاحم فتستمع إليه وهو يجيشه ضد الروم ويذكر خذلان غير الروم :
وسوى الروم خلف ظهرك روم ...فعلى أي جانبيك تميل
أو إلى أبي تمام من قبل يمجد المعتصم في عزيمته :
لو لم يقد جحفلا يوم الوغى لغدا ... من نفسه وحدها في جحفل لجب
ومن قبل رووا : أن عبد الملك بن مروان خلا بجارية من جواريه ، أيام حربه مع مصعب بن الزبير ، فأخذ يداعبها بكلماته من بعيد ، فقالت له يا امير المؤمنين : وما يمنعك مني ، والمكان خال وأنا بين يديك ..فقال لها : يمنعني قول الأخطل :
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار
إن متلازمة الإعلام ( ديون الإنشاء ) والبطولة والإنجاز . معقدة ليست بسيطة ، أيهم يبدأ أولا ، وأيهم يحفز؟! وأيهم ينجز ؟! ولمن يكون الفضل والسبق، وكل هذا لا مكان للحديث عنه في جهد ( فريق ) ينتصر بالركعة وبالدمعة وبالرأي والكلمة وبالعزيمة والساعد وبالشلو والدم ، فينجدل كل هؤلاء في ضفيرة واحدة اسمها ( الفعل ) أو(الإنجاز) أو (البطولة ) أو ( النصر..) ينتصرون معا ، أو ينهزمون معا ، وأخطر ما أدخلوه من فساد على لعبة كرة القدم ما تعودوا أن ينسبوه من فضل إلى هداف الفريق ..
الإعلامي هو أول في معادلة الإنجاز وهو آخر وهو بعد كل فاصلة ونقطة ، وعلى رأس كل سطر ، وحيث يقلب الفاعل الجاد الصفحة . ليستأنف... و( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ) .
وليس صحيحا ما يدندن به البعض من مماحكات في مساجلات مرضى القلوب والعقول من أن: ( الإعلامي هو حامل مكبر الصوت للسياسي) !! وإذ نركز في هذه الورقة الحديث على الإعلامي فهذا لا يعني استخفافا أو تقليلا من دور أي فاعل في الفريق المنجز ، ولو كان صاحب النعل والوضوء . رضي الله عن سيدنا ابن مسعود يتبختر بساقيه الأحمشين على صدر عدو الله ( أبي جهل ) عمرو بن هشام ، والبعيد ينخر ويقول : لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا ابن أم عبد
ولقد كان للقبائل من قبل ثم للدول وللقادة والزعماء خطباؤهم وشعراؤهم وكتابهم والمنافحون عنهم على مرّ التاريخ فحسان شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وثابت بن قيس خطيبه ، وفيهما يقول الأقرع بن حابس سيد تميم ( إن هذا الرجل مؤتى لخطيبه أخطب من خطيبنا وشاعره أشعر من شاعرنا ..)
وكان الأخطل شاعر بني أمية . وقيس بن الرقيات شاعر الزبيريين وما أجمل أن قال :
إنما مصعب شهاب من الله تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك رحمة ليس فيه جبروت ولا به كبريــاء
يتق الله في الأمور وقد أفلـح من كان همِّه الاتقـاء
وكان الكميت بن زيد الأسدي شاعر الهاشميين :
طربت وما شـوقا إلى البيض أطرب ..ولا لعبا أذو الشـيب يلعب
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى ... وخير بني حواء والخير يطلب
إلى النفـر البيض الذين بحبهم ... إلى الله فيمـا نابني أتقــرب
ثم كان المعتصم وأبو تمام وتمجيدة الفتح
ستون ألفا كآساد الشرى نضجت ... جلودهم قبل نضج التين والعنب
وكان المنجمون قد قالوا للمعتصم لن تفتح مدينة عمورية حتى ينضج التين والعنب . وأبت همته عليه إلا ان يلبي الصوت الزبطري في قلب الشتاء .
وكان المتوكل والبحتري .. البحتري المنبجي الذي عز عليه أن يرى الخليفة الصالح مخذولا مقتولا بيد ولده المستنصر فتف على الدنيا وصان نفسه عما فيها ...
صنت نفسي عما يدنس نفسي..وترفعت عن جدا كل جبس
حضرت رحلي الهموم فوجهت إلى أبيض المدائن عنسـي
أتسـلى عن الهموم وآسـى لمحل من آل سـاسـان درس
وكان سيف الدولة والمتنبي ، ويزعمون أن سيف الدولة الحمداني كان شيعيا رافضيا ، قلت ولا يصح لمكانه في الذود عن الأمة والخلافة وحماية خاصرتها الشمالية من بغي الروم وما عرف عن رافضي قط وقوف في وجه عدو خارجي ، وإنما كانوا دائما الشوكة في الجنب و الثغرة التي تؤتى الأمة منها ، ألا ليت قومي يعلمون .
وكان كما سبق في هذا المقال صلاح الدين والقاضي الفاضل ثم كوكبة من الشعراء العظام يحشدون الهمم ويرتقون ويحرضون على الجهاد ، يبشرون بالانتصارات ويحذرون أو يبكون من الانتصارات وعلى هذا مضى تاريخ الأمة التي عرفنا وألفنا وأحببنا وعشقنا ..
حتي يقول فرزدقنا :
إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعـرنا ســيدا من قبيلة ... ذرى منبـر صلى علينا وسلما
والإعلامي في كل أمة أو حزب أو جماعة أو مؤسسة هو سنا اللهب الذي يرتقي صعدا ، ويذهب بعيدا ويخبرك عن الحقيقة بطريقة تجعل الحزن سهلا ، والصعب يسيرا ، والبعيد قريبا ، والمرّ حلوا ، والموت جميلا ..
وقد كان فوت الموت سهلا فرده ... الحفاظ المـر والخلق الوعـر
ونفس تخاف العار حتى كأنه ...هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفـر
فأثبت في مستنقع الموت رجله.. وقال لها : من تحت أخمصك الحشر
وعلى كاهل الإعلامي في الدول والأحزاب والجماعات تقع مسئولية إثبات الحضور ، ونفي الغياب ، ومناطحة السحاب :
إنا – بني نهشل – لا ندعي لأب ...عنه ولا هو في الأبناء يشرينا
إن تبتدر غاية يومـا لمكرمـة ... تلق السـوابق منا والمصلينـا
لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من فارس ؟!خالهم إياه يعنونا
وكلمة (حاضر) يملأ بها الإعلامي فمه تتردد في الجواء ، وتسد الآفاق ، وتسمع غير مسمع ، فتملأ قلوبا بالأمن والأمل ، وأخرى بالرعب والألم تلك هي بعض المهمة . وسامحوا من ينفت عن شجا ويتقلب على مثل جمر الغضا ، وفي بلدنا منذ القديم قطعوا الصلة الضرورية بين الصواني والحلواني .
هذا غيث يراق على صفا أزلّ ، أو على قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، وليراجع حديث رسول الله من لم يحفظه وهل كانت مصيبتنا إلا من قوم لا يحفظون ، وإذا حفظوا لا يعلمون ، وإذا علموا لا يصنعون...
يعبر الإعلامي في الأحزاب والجماعات عن رؤية حزبه وجماعته . ويحمل رسالتها بلاغا بشارة ونذارة تعزيزا وتأكيدا في قلوب المؤيدين ونصرة وحجاجا ودفاعا في وجوه المعاندين والمنكرين . وهو في كل ما يأتي ويدع ، ويقدم أو يؤخر : بشير ونذير
بشير يقتفي :
بَنيّ إن البر شيء هيّن ... المنطق الطيب والطعيّم
يدرك معاني الكلمات الجامعة ، ومواقعها في العقول والقلوب ، وكيف تكون سلاسل تربط بالود ، وتجمع على الحب ، وتردم الهوّة وتجسر الفجوة ، وتأوي إلى ركن شديد .. حتى كان آخر نداء القوم يوم حنين : يا للأوس يا للخزرج ...
وأبو القاسم بين ظهرانيهم ينادي :
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
بشير يحفظ ويعلم ويعلّم ويا ضيعة من لا يحفظ ولا يعلم ولا يعلّم
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
الإعلامي الناجح لا يستعمل مقاييس وقواعد خشبية . سمعهم يقولون يوما ( إن الحضور خير من الغياب ) فنزا على كل منبر ، وخاض في كل مخاضة وإن كانت قد استحال لونها ، وفاح ريحها ، واسترسل مع كل ناعق ، لم يميز بين خبط وخلط وخطب .. تعليق بلا تحقيق وحيّ الله قوما من العرب أبدلوا الكاف بالقاف فقالوا للرقيق (ركيك )...
ونذير حفظ وتعلّم
ولما وضعت على الفرزدق ميسمي وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل
أو حفظ :
ويلمها خطة ويلم قائلها .. لمثلها خُلق المهرية القود
هو محارب طلقاته الكلمات . وقذائفه البيانات ؛ يظل كما كان رسول الله صلى الله عليه عندما يخطب تحمّر عيناه ، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم مساكم .علّموا هذا الذين لا يغضبون..
يرسل إليّ البعض معاتبين ومكثرين حدثنا بما نعلم وبما نحفظ وإنما أردت أن أقول لكم : فاض إناء بما فيه .
وروي أن القاضي شريك جاءه تغلبي ليؤدي شهادة فقال له أسمعني قول عمرو بن كلثوم ...
أبا هند فلا تعجل علينا ..
قال التغلبي : لا أحفظها ... فرد شريك شهادته وقال لو كان فيه خير لحفظ فخر قومه ...
( بلاغ )
وسوم: 640