قراءة في المشهد السوري في ضوء تفاهمات فيينا 2
بما يمكن أن يكون تكرارًا لمؤتمر فيينا الشهير، الذي عقد قبل مائة عام، في الفترة من شهر:9/ 1814 إلى: 6/1815م، و ترأسه رجل الدولة النمساوي كليمنس فون مترنيش، و حضره سفراء الدول الأوروبية حينها، من أجل تسوية العديد من القضايا الناشئة من جرّاء حروب الثورة الفرنسية، و الحروب النابليونية، و تفكك الإمبراطورية الرومانية المقدسة، و أسفر عنه إعادة رسم الخريطة السياسية للقارة الأوربية.
يعقد فيها بعد مائة عام المؤتمر الثاني، و الأهمّ، بخصوص الأزمة السورية، التي تمثِّل أعقد أزمة مرّت بالعالم المعاصر، بحسب وصف الوزيرة جستين غريننغ وزيرة التنمية الدولية البريطانية؛ الأمر الذي يشي بشيء من الجدية في التعاطي معها.
حيث اجتمع و للمرة الأولى من عمرها، في فندق إمبريال، يوم الجمعة ( 30/ 10/ 2015م )، أعضاء (19) وفدًا: ( 17 دولة )، و ( ممثلان): للاتحاد الأوربي، و للأمين العام للأمم المتحدة في الملف السوري ستيفان دي مستورا.
يتقدمهم وزراء خارجية دول مجلس الأمن الخمسة، و وزراء خارجية كل من: السعودية، الأردن، العراق، لبنان، مصر، قطر، الإمارات، عُمان، تركيا، ألمانيا، إيطاليا، و إيران ).
و كان لافتًا حضور إيران التي جلست للمرة الأولى مع السعودية على طاولة واحدة و إن كانت موسّعة؛ للبحث في الموضوع السوري، و مشاركة وزير خارجية سلطنة عمان، التي تقوم بدور الوسيط في هذا الملف؛ لما تمثله من دور محوري في ملفات المنطقة بعد غياب الملك حسين.
و قد تمّ التوصل فيما بينهم إلى جملة من التفاهمات، كأرضية مشتركة قبيل الجولة المقبلة للمحادثات بعد أسبوعين، و تعهدوا خلالهما ببذل الجهد لردم الفجوات؛ تمهيدًا للخروج باتفاق يحلّ هذه الأزمة الممتدة منذ خمس سنوات، المعلنة في هذه الوثيقة ذات البنود (9):
1- وحدة سورية، و استقلالها، وسيادتها على كامل أراضيها، و علمانيتها.
2- الحفاظ على مؤسسات الدولة من الانهيار.
3- ضمان حقوق كل السوريين بغض النظر عن قوميتهم، أو عقيدتهم الدينية.
4- تسارع الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب.
5- ضمان التحرك الإنساني ضمن كل أراضي سورية، مع التأكيد على زيادة الدعم للنازحين داخليًا، و اللاجئين في دول الجوار.
6- التصميم على هزيمة داعش، و المنظمات الأخرى المصنفة إرهابيًا في قرارات مجلس الأمن.
7- الطلب من الأمم المتحدة لإحضار ممثلين عن الحكومة، و المعارضة بناءً على بيان جنيف (2012)، و قرار مجلس الأمن (2118)؛ للبدء بعملية سياسية تفضي إلى تشكيل حكومة ذات مصداقية، كاملة الصلاحيات و غير طائفية أو عرقية، يعقبها تعديل في الدستور، و انتخابات رئاسية و برلمانية حرة، و شفافة، و عادلة، يشارك فيها جميع السوريين أينما كانوا، و بإشراف مراقبين من الأمم المتحدة، لضمان تحقيق أعلى المعايير الدولية بالشفافية و المسؤولية..
8- البدء بعملية سياسية تكون بقيادة سورية، ويملكها السوريون وحدهم، الذين هم من سيحدد مستقبل بلدهم.
9- البحث مع الأمم المتحدة عن أساليب لضمان تحقيق وقف إطلاق نار وطني، يعلن في يوم محدد بالتوازي مع انطلاق العملية السياسية.
يأتي هذا مع الإقرار بأنّه ما تزال هناك خلافات جوهرية مستمرة بين الولايات المتحدة و حلفائها من جهة، و روسيا وإيران من جهة ثانية تتمحور حول مستقبل الأسد، كما عبر عن ذلك وزير الخارجية الأميركي، الذي شدَّد على أن فرص نجاح الحل واعدة على الرغم من ذلك.
و قد كان لافتًا للنظر موقف إيران من ذلك، إذ ألمحت إلى أنها تفضل فترة انتقالية مدتها ستة أشهر تعقبها انتخابات رئاسية لتحديد مصير الأسد، بحسب ما نسبت وسائل إعلام إيرانية إلى أمير عبد اللهيان نائب وزير الخارجية الإيراني عضو الوفد الإيراني، قوله: ( إن إيران لا تصرّ على بقاء الأسد في السلطة للأبد )، و هو الأمر الذي لا تمانعه الدول الأخرى، شريطة مغادرته السلطة بعدها.
و في هذا الصدد يمكننا قراءة جملة من الأمور، منها:
1ـ إنَّ ما يترددّ عن غياب التمثيل لأيٍّ من طرفي الأزمة ( النظام و المعارضة )، كلامٌ غير مبررٍ؛ إذْ حضر كلٌّ منهما من خلال حلفائه الأقربين، فحضرت روسيا عنه بالدرجة الأساس، ثمّ إيران بالدرجة الثانية، و حضر عنها أطرافٌ عدة في مقدمتها: السعودية، و تركيا، و قطر، و في رأيي المتابعين أنّ كلا الطرفين قد أناب عنه من يمثله خير تمثيل، و يبلغ مطالبه للمجتمعين بأفضل من حضوره، صحيح أنّ لصاحب الحق مقالة، و لكن في مثل هذه الحالة لا مندوحة عن الحَكَم الذي يكون أهدأ، و أمرن من صاحب الحق، الذي يعيش ظروفًا ضاغطة تجعله يذهب في مطالبه مذاهب يراها من يراقب الأوضاع عن بعد، ذات سقف سياسي عالٍ، لاعتبارات عدّة.
و هو ما تجلّى بوضوح في تصريحات الوزير الجبير، الذي أظهر حزمًا في تصريحاته تجاه بقاء الأسد في المرحلة القادمة، لدرجة يرى فيها المراقبون قمّة في التمسك بمطالب المعارضة ( الغائبة ـ الحاضرة ).
2ـ إنّ في هذه المطالب التسع ما يمكن البناء عليه، استنادًا إلى الواقعية في السياسة؛ إذْ ليست كل المطالب من أيٍّ من طرفي الأزمة مصغيًّا إليها من الآخرين، فمن غير المقبول دوليًا أن يسمح لطرفي الأزمة بالانتصار العسكري، بما يجعله يقرر بمفرده شكل الدولة و النظام للمرحلة القادمة، فليس الأمر بأيّة حال متروكًا لهما بعد تدويل الأزمة، و ليست سورية بموقعها الجيوستراتيجي بعيدة عن نظر الولايات المتحدة التي ما تزال تمسك بقيادة العالم، و هي ليست بوارد أن تتراخى في قبضتها عليها؛ لأنها تدرك أنّ من يريد قيادة العالم فعليه أن يبسط نفوذه عليها.
3ـ إنّ الدَّور ( المغضوضَ الطرفُ عنه ) الذي تقوم به روسيا، من أجل تعديل موازين القوى على الأرض، بما يجعل أطراف الثورة قابلة بالحلول المقترحة للأزمة، يمكن أن يتعدى ذلك في مراحل قادمة إلى تقليم الأظافر لمن لا يعجبه نصيبه منها، و الأمر قد لن يكون أقلّ وطأة ممّا هو حاصلٌ الآن؛ لأنه عندها سيكون برضى مُعلَن من الأطراف الدولية التي رعتْ الاتفاق، و غير بعيد أن يكون تحت البند السابع في مجلس الأمن.
لذلك يرى متابعون يعنيهم أمرُ المعارضة السورية، أنْ تنأى بنفسها عن ذلك؛ فتليِّن من مواقفها المُحقِّة، ( التي لا تصطف بجانبها المواقف الدولية الحالية )، و ستكون تلك واقعية سياسية تُحسَب لها، و تحديدًا منها الفصائل الإسلامية التي أصبح لها مقاربات وطنية واضحة في الآونة الأخيرة، كأحرار الشام، و جيش الإسلام، و نور الدين الزنكي، و أمّا ما كان منها له علاقة عضوية بالمشاريع العالمية كجبهة النصرة، و جند الأقصى، و الخراسانيين ( و تجاوزًا: داعش )، فقد عقدت الأطرافُ مجتمعة العزمَ على هزيمتهم بموجب البند السادس في أعلاه.
4ـ ليس من المصلحة أن نلقي كثير بالٍ لدعوات التخوين لمن سيقع عليه عبء تمثيل الشعب السوري، في اللقاءات القادمة في فيينا، أو غيرها ؛ كي يجلس مع أطراف تمثل النظام، تمهيدًا للولوج في المرحلة الانتقالية، فالإصغاء لمثل ذلك قد يودي بصاحب القرار السياسي في مزالق لا تنفعُه فيها ساعة الندم، ولاسيَّما إذا ما أحسنّا إيصال رسالتنا المنصبّة على المواصفات، و سقف المطالب لمن سيُلقى على كاهله ذلك، و في ظننا أن في وثيقة المبادئ الوطنية الخمسة، التي أعلنها المجلس الإسلامي السوري حصانة من أية مزالق نخاف على هؤلاء منها.
5ـ نرى ألاَّ نجعل من قضيتنا ـ على عدالتها ـ ميزانًا حصريًا، نزنُ به الآخرين من أصحاب القرار، من غير السوريين، فهولاء يجمعهم و إيَّانا عدالةُ قضيتنا أولاً، و مصالحُ بلدانهم ثانيًا، و نحن و إيَّاهم نتحرّك في ضوء المصالح المرسلة، الهوامش السياسية المتاحة لنا و لهم، و ليس بالضرورة أن يركبوا مركبنا دائمًا، و تلك هي سُنّة التدافع في الكون، التي تجعل للمظلوم نصيرًا يشدُّ عَضُدَه، و ذلك لا يستدعي منه أن يلبس النظارة ذاتها التي نضعها على عيوننا وقت أزمتنا.
فإذا ما أردنا أن نحملهم على مركبنا في عُباب أزمتنا دون غيره، و نَأْطِرَهم على رُؤَانا أَطرًا؛ فلَعَلّ قائلَهم يصرخُ في وجوهنا: إذا كانت أشلاءُ أهلكم لم تحملكم على التلاقي فيما بينكم، فعلامَ تُركبونا هذا المَركَب الصعب.
وسوم: 640