متلازمة الاستبداد والإلحاد
في معمعة الحديث عن انتشار الإلحاد، ومحاولة تضخيم الأمر للتعمية على كوارث الطغاة وخذلان المستضعفين، وإشغال الناس - بهذا الاستهلاك الإعلامي - عن قضاياهم الأساسية (الحريات - الشورى - القانون - المساواة - تكافؤ الفرص)، ينسى الكثيرون أن من أهم أسباب انتشار الإلحاد في أوروبا، هو تَرِكة العصور الوسطى، التي شهدت علاقة سِفاح وشذوذٍ بين الكهنوت الديني والسلطات الظالمة، شرعنت فيها المؤسسة الدينية فسادَ السلطة واستبدادَها، وأضفتْ هالة من القدسية على السلطة ورموزها، وحاربت العِلمَ والعلماء خشية التنوير والوعي، المؤدّيين - في المُحصّلة - إلى إدراك الإنسان العاديّ أنه ليس أقلّ قيمة من أحد، وأنّ له حقوقاً على السُّلطة لا تقلّ جَسامة عن واجباته تجاهها.
هو السبب الأساسي الذي يُغفله البعض في الحديث عن ظاهرة الإلحاد، والذي تُعدّ الأسبابُ الأخرى من بعض نتائجِه وإفرازاته.
فربط الدِّين بالاستبداد والقمع ومصادرة الحريات ومراقبة الخطوات وإحصاء الأنفاس، يؤدّي إلى تشويه اسم الله - تبارك اسمُه - في نفوسٍ لم يُتَحْ لها أصلاً أن تنهل من معين دينيٍّ صافٍ، بل ولم تَسلَم فِطرتُها الدالّة - بذاتها - على الله تعالى من التشويه والزيغ، بمؤثرات المُحيطِ الأسري والاجتماعي والسياسي، فترفض تلك النفوسُ - مِن ثَمّ - فكرته والاعترافَ بوجوده - عزّ وجَلّ -!
ولم يسلم الدين الإسلامي من الذي طال معظم الشرائع السماوية السابقة، بمحاولة تشويه مبادئه من قِبل "كهنة الإسلام"، فعلى الرغم من الحفظ الإلهي المطلق للمصدر الإسلامي (القرآن الكريم)، إلا أن هؤلاء الكهنة احترفوا بَتْرَ سياقات آياتِه المُحكَمات، وتأويلَ معانيها ولويَ أعناقها، واحتكارَ فهمِها والنطقِ باسم الله، والاستشهادَ بها على الشيء ونقيضه، حسبما تقتضي مصلحة السلطة!
فالمظاهرات السِّلمية - مثلاً - محرّمة حين تعكّر مِزاج السلطة الاستبدادية، وواجبة حين تغيّر السلطة رأيها، والتحزّب السياسيّ محرّم حيناً، وواجب حين تقتضي مصلحة الفاسدين، وطاعة وليّ الأمر واجبة حين يكون متغلّباً فاسداً، والخروج عليه محتّم حين يكون مُنتخَباً صاحبَ مشروع إصلاحي!
أضف إلى ذلك.. التماس الأعذار "الشرعية" لطوامّ ذوي الجاه والسلطان والقوّة والمَنَعة وغضّ الطرف عنها، في مقابل تكفير وتضليل وتفسيق وتبديع الخاطئين من الضعفاء وعامّة الناس! وإظهار الإسلام بمظهر الدّين الطبَقي، الذي يميّز ويصنّف الناسَ على أسس عائلية وجاهيّة واقتصادية!
الإلحاد إذن في العالم الإسلامي اليوم هو ظاهرة غير طبيعية، وردّة فعل على ظروف سياسية واجتماعية غير طبيعية، ويفتقر حتى للمهاترات الفلسفية التي يلوكها ويتشدّق ويتمظهر بها أدعياءُ الثقافة من الملاحدة!
ولا مناص من معالجة تلك الظروف السياسية والاجتماعية، إن أردنا وقف المدّ الإلحادي، الذي استشرى بشكل أكبر مؤخراً، بعد أن اغتالت التيارات الدينية العُنفيّة المتشدّدة أحلامَ الربيع العربي، وتسلقت على جماجم الثوار في بعض البلاد، لتفرض كهنوتاً دينياً بلون جديد..
وكذلك بعد أن اغتالت تيارات دينية أخرى مُدجَّنة أحلامَ الربيع العربي، بالاصطفاف والتحالف مع الثورات المُضادّة، وانقلبت مع العسكر على شرعية الشورى، وأهدرت استحقاقات ثورات الحرية والكرامة!
إذن.. لا يمكن إغفال التأثيرات السياسية والاجتماعية على الحالة الدينية للشعوب، خاصة حينما يتدثّر الفاعلون على الساحة السياسية بأردية الدِّين - حقيقة أو زوراً - فيؤثّرون في صورة الدين تبعاً لذلك - إيجاباً أو سلباً -.
وسوم: 642