حوار مع الرئيس محمود عباس

بالتأكيد سيثير هذا العنوان انتقادَيْن جادّيْن قبل أن يُقرَأ مُحتواه. بداية استخدام لقب الرئيس يعترض عليه الكثيرون من زاويتين الأولى قانونية باعتباره أصبح فاقد الشرعية وفقا للنظام الداخلي للسلطة (بمثابة الدستور).. 

والثانية باعتباره قد استنفد دوره رئيسا بعد أن باءت بالفشل كل سياساته ورهاناته بالنسبة إلى ما طرحه من هدف ووعود. ولم يعد مستعدا ليطرح سياسات ورهانات جديدة عدا تكرار ما جرّبه وباء بالفشل..

أما الاعتراض الثاني فيأتي من استخدام كلمة حوار..

وذلك من زاويتين أيضا. فالأولى عدم استعداد عباس للحوار بعد أن أصبح رئيسا وأصرّ أن يُخاطَب بلقب "السيد الرئيس" ليكرّس أعلى درجات المهابة والتمجيد متشبها بالرؤساء الذين أصرّوا على الألقاب التي لم تأتِ عبر تحقيق انتصارات وإنجازات، وليس لها من مسوّغ سوى الجزرة والعصا (شراء الضمائر والقمع). 

أما الزاوية الثانية فباعتبار الحوار بلا جدوى ولا فائدة مهما كان قويّا ومقنعا. فالرجل لا يقبل الحوار ولا يريده. بل أن دعوته إلى الحوار يخفّف مما يتوجّب من توجيه النقد له بسبب استمراره بالسعي لوقف الانتفاضة، والاستمرار بالتنسيق الأمني. 

وذلك في وقت وجب فيه وقف هذا التنسيق بعد أن تحوّلت السلطة إلى مجرّد حارس للاحتلال والاستيطان وفقد كل مسوّغ، وبعد أن أغلق نتنياهو كل باب أمام إقامة دويلة فلسطينية ولو كانت مسخا ومهزلة. 

صحيح أن هذين الاعتراضين وجيهان، ولا يسهل الردّ عليهما. ولكن السبب الذي يدفع إلى تجاوز هذين الاعتراضين فيرجع إلى تصريحات أطلقها محمود عباس نقلتها الحياة اللندنية في 15/12/2015. وقد وصف ما يجري في القدس والضفة الغربية بـ"الهبّة الجماهيرية". 

وقال: "كما تعلمون بدأت هبّة جماهيرية مبرّرة لا نملك أن نقول للشباب لماذا أنتم خارجون (للمواجهات مع إسرائيل)، ولا أريد أحداً أن يدّعي أنه أخرجهم". وتابع "إن الشباب خرجوا لأسباب عدّة أولّها أنهم بدأوا يشعرون باليأس من حلّ الدولتين، ولا يرون أساساً منطقياً لدولتين". (الشباب خرجوا ليهزموا الاحتلال والاستيطان وليس يأسا). 

وتساءل محمود عباس، "أين دولتنا؟ استيطان في كل مكان، حواجز في كل مكان، حيطان في كل مكان، بدأ اليأس يتسرّب إلى قلوبهم وعقولهم. أنا أتحدث عن الجيل الجديد. فبدأ يتراكم (الإحباط) ما الحل؟ لا يجدون أمامهم حلاً". واعتبر عباس أن الاعتداءات على المسجد الأقصى كان سبباً في هذه المواجهات. 

بداية لا يريد عباس أن يسّميها انتفاضة. لأن ذلك يحرجه أشدّ الحرج بسبب إعلانه بمنع قيام انتفاضة، كما تعهدّه الذي لم يتراجع عنه حتى الآن باستمرار التنسيق الأمني مع الاحتلال لضرب خلايا المقاومة المسلحة، وكل تحرّك باتجاه الانتفاضة. ويجب أن يسجّل عليه أنه ما زال يمارس من خلال أجهزته الأمنية اعتقال شباب "الهبّة الجماهيرية". وعمل على إحباط عدد من التحركات الشبابية. 

الأمر الذي يتناقض تناقضاً صارخاً مع اعتباره ما يجري بـ"الهبّة الجماهيرية" ومع قوله للشباب "لا نملك أن نقول للشباب لماذا أنتم خارجون؟". 

حسناً إذا كانت "هبّة جماهيرية" وإذا كنت لا تملك أن تقول للشباب "لماذا أنتم خارجون؟" فكيف يمكن لمحمود عباس أن يفسّر عدم إيقاف التنسيق الأمني بالرغم من أنه أصبح مُحرَجاً وهو يمارس عمليات الاعتقال، أو يمنع التظاهر أو يطارد المقاومين. وذلك عكس ما كان عليه من وقاحة فاضحة سابقاً. ولكن مع ذلك ما زال مستمراً. بل لم يأخذ محمود عباس قراراً بتنفيذ قرار المجلس المركزي بوقف التنسيق الأمني الذي وقعّت عليه قيادة فتح كما كل قيادات م.ت.ف. 

أما من ناحية أخرى فإن محمود عباس في حالة تناقض شديد بل في حالة شلل وإرباك عندما تقارن مواقفه وممارساته الراهنة مع ما ورد في الكلمة المذكّرة التي تساءل فيها "أين دولتنا؟ استيطان في كل مكان، حواجز في كل مكان، حيطان حيطان في كل مكان" ثم تساءل "ما الحل؟" بقصد أمام الشباب ويجيب "لا يجدون حلاً".

أولاً هذه الصورة التي ترسمها يا محمود عباس "أيها السيد الرئيس": "استيطان في كل مكان، وحواجز في كل مكان، وحيطان في كل مكان" (وغير ذلك كثير كثير). ألم يتوسّع كل هذا ويتضخم ويتفاقم ووصل إلى ما وصل إليه في ظل اتفاق أوسلو وتحت قبّة المفاوضات والتنسيق الأمني والرعاية الأمريكية والرباعية العتيدة؟

وأن من يقارن بين هذه الصورة وما كان عليه الحال في ظل ما قبل أوسلو، وخطك السياسي، وقيادتك سيجد أن الاستيطان كان أقل بما يقرب من الثمن. وكذلك حال الحواجز والمستوطنين. ولم يكن حتى الحيطان والجدار. وسكتَّ وصبَرتَ، وراهنت، على أن تُعطى في النهاية دولة، وها أنت ذا الآن تسأل: أين دولتنا؟ 

ثم مع كل هذا لا تفكر بإلغاء اتفاق أوسلو، ولا بالتخلي عن سياسة المفاوضات، ولا بالتوقف عن التنسيق الأمني. ولم تفكر بحلّ السلطة التي شكلت مظلة مثالية لاستفحال الاستيطان وتمادي الحواجز، واستطالة الحيطان، والإمعان في اضطهاد الأسرى، وتعذيب أسرهم. ناهيك عن حصار قطاع غزة وما لحق به من دمار. 

صحيح أن من إيجابيات الوضع الراهن إعلانك عملياً عن سقوط حلم الدولة وعن الكارثة التي تسود الأوضاع في الضفة الغربية، وعن تسليمك بما بادر إليه الشباب. وذلك بإزالة عقبة وقوفك علناً اليوم ضدّ الانتفاضة التي أسميتها الهبة الجماهيرية (لا بأس). الأمر الذي يترتب عليه ضرورة المضيّ قدماً بما يجري من مواجهة للاحتلال والاستيطان وتهويد القدس وحصار قطاع غزة والتحوّل إلى إغلاق المدن والقرى والمخيمات بعشرات ومئات الآلاف (الملايين) من الجماهير، وبعصيان سلمي شامل لا يتوقف إلاّ بدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وفك حصار غزة وإطلاق كل الأسرى. 

هذه الاستراتيجية التي تجمع بين المقاومة المسلحة الجبارة التي يمثلها قطاع غزة، والمقاومة الشبابية بالسكاكين والدهس والحجارة والمولوتوف، وإغلاق المدن والقرى والمخيمات بنزول الجماهير السلمي إلى الشوارع. وهنا عليك أن تكون مع هذا النزول، في الأقل ولا تقف في وجهه. فالحل موجود. وهذا هو الحل. وقد بدأه الشباب. 

فالأمر ليس كما تقول "لا يجدون حلا". لأنك أنت الذي لا يجد حلا ولا يريد حلا. فهل تحدث المعجزة أم على قلوب أقفالها؟ واعلم أن الأمور ماضية بهذا الاتجاه، ولا حاجة لأحد أن يدّعيها.

وسوم: العدد 648