الثورة السورية بين أبو عنتر... وأينشتاين!

د. حمزة رستناوي

[email protected]

(1)

النسبية مبدأ عام و صالح , و مفيد , لمقاربة الأمور سواء على المستوى الشخصي الخاص أو على المستوى السياسي العام. بالمقابل إنّ الاصرار على الاطلاق و الحتميات  و مبدأ الثنائيات : أبيض / أسود ..خيّر / شرير..مؤمن / كافر...وطني /  خائن...معنا / أو ضدّنا...الخ  يودي بالإنسان الى التعصب و العنف..و يودي بالمجتمع و الجماعة الى التنازع  و التحارب ,  وبالتالي استمرار الحروب الأهلية و بقاء الدولة الفاشلة على الصعيد السياسي.

(2)

الحقيقة مشاع , و كل انسان أو فئة تمتلك أو تنظر الى جزء منها , و لا أحد منّا – نحن البشر -  يمتلك كامل الحقيقة ..و معظم مفاهيمنا و مواقفنا هي في جزء كبير منها تعود للظروف و البيئة التي وُلِدنا و تربينا بها...و كذلك للحوادث و التجارب الشخصية التي مررنا بها و أثّرت على حياتنا.

(3)

و لكن ما علاقة ذلك بالثورة السورية ؟!

و سأضرب على ذلك العديد من الأمثلة , مثلاً , شخص سوري ولد في بيئة سنّية سيكون بطبيعة الحال و بنسبة 99 %   سنّي المذهب , و ليس في ذلك فضيلة أو رذيلة من ناحية المبدأ , هذا الشخص يقول عن العلويين  " النصيرية " أنهم كفرة أبناء مرتدّين .. يجب ابادتهم و التخلّص منهم.

حسنا

هل فكّر هذا الشخص و لو للحظة , لو أنه ولد في أسرة علويّة , و عاش في بيئة علويّة هل سيكون موقفة نفسه , و هل سيدعو و يبرر ابادتهم و القضاء عليهم ؟!

-شخص سوري ولد في بيئة علوية , سيكون بطبيعة الحال و بنسبة 99%علوي المذهب..و ليس في ذلك فضيلة او رذيلة من ناحية المبدأ , هذا الشخص يقول عن السنّة أنهم ارهابيين..متخلفين.عملاء  ..يجب إبادتهم و اخضاعهم , و لا يمكن التعايش معهم.

هل فكّر هذا الشخص و لو للحظة واحدة , لو أنه ولد في أسرة سنّية و عاش في  بيئة سنّية هل سيكون موقفه نفسه , و هل سيدعو و يتحمّس لما يدعو اليه ؟!

ما قصدتهُ من المثال , لنكن متواضعين و لو قليلا في أحكامنا و مواقفنا تجاه الآخرين المختلفين عنّا , فما يجمع السنّي مع العلوي مع  أي انسان آخر ليس العقيدة أو اللغة أو القومية أو الأسرة ..الخ

ما يجمعهم هو الانسان  و القيم الانسانية , و بداهة لكل انسان الحق في الحياة و الحرية و عدم التعرض لممتلكاته و انتهاك أعراضه و له الحق العمل و السكن و العلاج و عدم التعرض للتعذيب..الخ.

من حق السوريين أن يعيشوا .. و يحلموا بدولة عادلة تقوم على أساس المواطنة المتساوية , و الصيغة العملية هو دولة ديمقراطية , حيادية تجاه عقائد و قوميات مواطنيها.

ما يجمع السوريين كونهم مخلوقات من حقها أن تعيش بكرامتها و ألا يظلم بعضهم بعضا , من حقهم أن يحكموا أنفسهم , و أن يختاروا من يحكمهم , فهم لم يُخلقوا عبيدا و أقنان في مزرعة آل الأسد أو غيرهم.

(4)

لو فكر من يوالي النظام الأسدي و يبرر جرائمه , أن البرميل المتفجر سيسقط فوق منزله و يقضي على أفراد أسرته , لما كان من الموالين أو المبررين.

لو فكر الجندي و الشبيح الذي  يسرق الممتلكات تحت مسميات الغنائم و يبيعها في " أسواق السنة " ... لو فكر قليلا لما فعل ذلك ,  أيقبل أن يسرق أحدهم بيته و شقى عمره و يبيعها في " أسواق العلويين " في ظرف آخر ؟!

لو فكر الثائر - المتخفي تحت عباءة الثائر - الذي يستولي على ممتلكات الناس بحجة تمويل الثورة و يفرض الإتاوات على الناس و البضائع ..لو فكر قليلا و وضع نفسه مكان الناس البائسين و الفقراء الذين يبتزهم لما فعل ذلك.

قد يقول قائل ما عرضُته أعلاه ليس أكثر من خطاب مثالي , لا يصلح في مختبر الحياة , أقول لا أتوقع أن يكون هذا تفكير كل الناس و لا ربما الغالبية في ظرف ما , و لكن على القيادات السياسية و الاجتماعية أن تحرص على ذلك , و تبثّ هذا النمط من التفكير و الثقافة , و بغير ذلك لن تقوم لنا قائمة نحن السوريون.

(5)

لنأخذ مثال آخر حول مفهوم الوعي النسبي و فائدته ,  الجندي الذي جُنّد اجباريا و هو يخدم في الجيش النظامي الأسدي , انسان يعيش في ظروف من الرعب و الارهاب الامني , يُمنع من التواصل مع أهله , لديه أسره يخشى عليها و يخشى الانتقام ..الخ

هذا الانسان بحاجة لمساعدة و تيسير أمور انشقاقه و إعطاءه بدائل , و في حال حتى أسره أن نحسن معاملته , ما لم يكون متورطا بشكل مباشر في جرائم تشبيح و قتل , عندها يجب أن تأخذ العدالة و القصاص مجراها.

ما تحتاجه الثورة هي أن تتعامل مع السوريين كما يتعامل الأب مع أبناءه المحسنين منهم و الخاطئين ..هي ثورة شعب ..لتحرير كل الشعب..هي ثورة في سبيل الحرية و ليس ثورة لاستبدال طاغية بطاغية.

ما تحتاجه الثورة هو تقدير ظروف الناس ما أمكن , فهم في عسرة , و واجبها أن تقدم للناس خيارات و بدائل و ألا تضعهم في خيارات حادة , فمعظم الموالين للنظام أو الحياديين تجاه الثورة هم من المواليين بالجكارة و بالأخص ضمن فئة الأسباب غير الطائفية.

(6)

أعرف استاذا جامعيا من غير المهتمين بالسياسة عموما , و من حسني السيرة في مدينته و بين طلابه , قام الثوار أو جماعات محسوبة عليهم باختطافه في بداية الثورة و تم تحريره مقابل فدية و تمت مصادرة سيارته لاستخدامها في المعارك , و حالما أطلقَ سراحه , هاجر من مكان اقامته باتجاه الاحياء المواليه , و أولاده جميعهم أصبحوا من المؤيدين للنظام , لا أبرر لهم , فمولاة النظام شيء قبيح لا يُبرَّر,  و لكن تجاوزات و أخطاء  الثوار هي السبب المباشر لما جرى , و يتحملون قسطا من المسؤولية.

و سأضرب مثالا آخر عن شريحة أخرى من المجتمع , فالطبيب الذي يعمل في بيئة غير محميّة و ظروف عمل سيئة , و يُعتدى عليه , أو يجري ابتزازه من قبل النظام و فصائل من الثوار , نحن ندفعه دفعا إلى الهجرة..إلا من رحم ربّي.

قص عليّ أحد الأصدقاء  في السنة الثانية للثورة , أنه بينما كان جالسا أمام عيادته  و كانوا ثلاثة : طبيب باطنية و طبيب جلدية و طبيب أسنان , نزل أحد المسلحين بلحيته الكثيفة و شاربه المحفوف و الكلاشنكوف على ظهرة , نزل من الدراجة النارية ,  و اشترى غرضا من البقالية المجاورة , ثم سلم عليهم .." مرحبا دكاترة..شي مرتب ثلاث دكاترة ..و الله عشر ملايين قليل عليكن"!

و تكلّم كمن يخمن سعر بضاعة يريد شرائها..و كانت موضة الخطف رائجة حينها

..حاليا و بعد عام على الحادثة ثلاثتهم  مشتتين في أصقاع الارض يتدبرونون أمورهم و يعيشون الكفاف .

(7)

ما قصدته إذا كنا غير قادرين على جلب الانصار للثورة , علينا ألا نسعى لجلب الاعداء للثورة , فمن ليس من الثورة لنتفهّم وجهة نظره و نحاوره بالتي هي أحسن  و من لا نستطع اقناعه لندعه و شأنه , ما لم يتحول الى شخص مؤذي و يظلم الناس.

لا فائدة من انشقاق موظف يقدّم خدمة للمجتمع , أو شرطي مرور , أو شرطي في الهجرة و الجوازات مثلا , لنتساءل ما الفائدة المتوقعة من انشقاقه, مقارنة بالضرر الحاصل عليه.

الدول التي دعمت الثورة و لو بقليل من المال و السلاح , نتقبّل دعمها , و إن كان دون المطلوب , و نسعى لإقناعهم بالمزيد , و أن نكون أهلا و جديرين لذلك بما يخدم مصلحة الثورة . لا أن يخرج أحدهم على الفضائيات و يخون العالم , و يشتم العالم و يساوي دولة الامارات العربية المتحدة مثلا بروسيا و إيران , على سبيل المثال دولة الامارات التي تكفلت بإنشاء و رعاية مخيم " مريجب الفهود " لذوي الاحتياجات الخاصة و الايتام في الأردن و الذي يؤوي مابين 5-30 ألف لاجئ.

الأمم المتحدة مشلولة سياسيا و مقصّرة بحق الشعب السوري هذا أكيد , و لكن لنتذكر أن برنامج الغذاء العالمي يؤمن احتياجات حوالي 4 ملايين سوري في الداخل و في المخيمات.

(8)

هناك مثل شعبي سوري " الأرض الواطية بتاخد ميتها و ميّة غيرها " على الثورة أن تكون الأرض الواطي للسوريين لتكسبهم جميعا الى جانبها.

الارض الواطية بالسياسة تقتضي في هذا السياق من السوريين السنة ألا ينظروا لأنفسهم كطائفة و فئوية كما هو حاصل حاليا في العموم , بل أن يكونوا  الحاضنة لمشروع وطن كريم , وسوريا جديدة ,  تحاول النهوض على طريقة العنقاء.

(9)

إلى صديقيَ الذي وُلِدَ صُدْفَةً

على الضَفَّةِ الغربيَّةِ لموقعةِ صِفّين.

لو كنتَ في عَدِيدِ الضَفَّةِ الأخرى

هلْ ستدافعُ عنْ ذاتِ الطاغية ؟!

رُبَّمَا لا

قدْ تنتمي إلى طاغيةِ الضَفَّةِ الأخرى.

*

الطُغَاةُ جنسُ أنفسهمْ

و الذينَ لمْ تُفَكِّرْ بهمْ يا صديقي ماتوا

و الذينَ فَكَّرْتَ بهمْ أيضاً سيموتون!