إيران تستهدف الأمن القومي الجزائري
منذ أكثر من عشر سنوات ونحن نقرع أجراس الخطر بلا تهويل أو تهوين، عن ظاهرة التمدد الشيعي لصالح “الولي الفقيه” الذي ترعاه إيران في الجزائر، غير أن دعواتنا ظلت تقابل بالتجاهل أو الإنكار من قبل الحكومة الجزائرية، والتي مضت في توطيد علاقاتها مع طهران وصل الأمر حد التعاون على مستويات عديدة منها الاقتصادي والثقافي والأمني.
إن تشييع شريحة من الجزائريين من طرف طهران عبر “ولاية الفقيه” معناه تحويلهم من مواطنين جزائريين إلى آخرين يعتقدون أن دولتهم في إيران ويتبعون مباشرة للولي الفقيه الذي ينوب “عن الإمام الغائب في قيادة الأمة وإقامة حكم اللّه على الأرض”.
مهام قذرة لملحقين ثقافيين إيرانيين
السفارات الإيرانية نشطة جداً في تصدير الثورة الخمينية، يجري ذلك من خلال الملحق الثقافي الذي يعمل على صناعة خلايا شيعية في البلد التي يتواجد فيها، حيث يتم تمويلها وتنظيم زيارات لعناصر منها نحو طهران وقم، وخلال هذه الزيارات يلتقون بالمخابرات الإيرانية ورجال الدين، وهناك يتم تدريبهم على خطة معينة لنشر التشيّع بين أبناء وطنهم.
الشيء الذي لا يعرفه هؤلاء المتشيعون أن المخابرات الإيرانية لا تثق فيهم بل تحتمل أنهم مكلفين بمهمة مزدوجة ومضادة أو ربما يتمردون عليها لاحقاً، لذلك يتم توريطهم في علاقات نسائية سواء عبر المتعة أو غيرها، ويجري تصويرهم في غرفهم بالفنادق أو الشقق التي يتواجدون بها، ودائماً هي مجهزة بكاميرات سرية عالية الجودة والدقة وأجهزة متطورة تحتفظ بحركاتهم وهمساتهم، لذلك لم نسمع يوماً أن متشيّعاً زار إيران ثم عاد عن تشيّعه أو انتقدها في أدنى موقف.
الملحقيات الثقافية في السفارات الإيرانية تتكوّن من ضباط في الحرس الثوري يتخفّون بقناع الثقافة، تدربوا باحتراف على العمل في إطار تصدير ثورتهم، ومهمتهم الأساسية هي تشكيل خلايا شيعية في البلدان التي يتواجدون فيها، وهذه الخلايا التي تبدأ بالتشيّع الديني ثم تأتي العمالة لجهاز استخبارات الملالي، وبعدها يجري تشكيل طائفة ثم مليشيات ثم محاولة الهيمنة على الدولة وبعدها الحرب الأهلية المدمرة للوطن.
هذه هي سلسلة العمل الاستخباراتي الذي تقوم به سفارات إيران من خلال ملحقها الثقافي، ويتقوى نشاطه ويزداد لما تكون العلاقات هادئة وطبيعية بين الدولتين، فلا شيء يراهن عليه الحرس الثوري في بداية تشكيل خلايا شيعية تابعة لـ”الولي الفقيه” في بلد ما، مثل أن يجري العمل في صمت ولا يثار عليه أدنى غبار، فالفوضى هي الهدف وليس البداية ولا الوسيلة لمرحلة معينة في تنفيذ الأجندة الإيرانية.
الجزائر في مرمى نيران إيرانية
في الجزائر تعمل إيران منذ سنوات على تكوين عناصر شيعية مستغلة تردد الجزائريين على سورية خصوصاً، وبعدما تمكّنت من ذلك ركضت نحو مرحلة صناعة شبكات سرية تعمل على نشر التشيّع في عدة ولايات جزائرية.
تجدر الإشارة إلى أنه أثناء مرحلة الحرب الدامية التي عاشتها الجزائر في التسعينيات، حاولت إيران صناعة مليشيات إيرانية من خلال متشيعين جزائريين منهم المدعو محفوظ طاجين الذي تدرّب في معاقل تنظيم “حزب الله” في الضاحية الجنوبية بلبنان، والذي وصل لدرجة أمير وطني لما يسمى “الجماعة الإسلامية المسلحة” المعروفة اختصاراً بـ”الجيا”، وهو التنظيم الأكثر دموية في الجزائر.
كما أنها حاولت أيضاً من خلال مجموعات من المسلحين في تنظيمات أخرى كتنظيم “الجبهة الإسلامية للجهاد في الجزائر” المعروف اختصاراً بـ”الفيدا”، والذي تخصص في تصفية المثقفين والإعلاميين والكوادر الجامعية، وقد نقلت عدداً منهم نحو طهران وتدربوا في ثكنات للحرس الثوري، وتوجد مجموعة أدانها القضاء الجزائري بعدما تمّ القبض عليهم وأكدوا في محاضر التحقيق ولدى محاكمتهم أنهم تدربوا في إيران.
للأسف رغم الدور القذر الذي لعبته إيران خلال الحرب الأهلية، سواء عبر متشيّعين أو أموال دفعتها للجماعات المسلحة، إلا أن صراع الاتهامات المتبادلة لتبرئة الذمة من دماء الجزائريين بين السلطة التي تتهم الإسلاميين المعارضين وهؤلاء يتهمون مخابرات النظام في إطار نظرية “من يقتل من”، جعل الأجهزة الإيرانية تخرج من ورطتها كالشعرة من العجين. وقد كنت أول من كشف عن ذلك من خلال كتابي “أسرار الشيعة والإرهاب في الجزائر” الذي أغضب سفارة إيران ودفعها في جوان/يونيو 2011 لإصدار بيان تتهمني فيه باستهداف الوحدة الإسلامية والعلاقات الوطيدة بين طهران والجزائر.
فشلت مرحلة صناعة مليشيا مسلحة في الجزائر باستغلال مسلحين تمردوا على الدولة، وذلك لما انتفض الشعب الجزائري ضدهم بسبب مجازر ارتكبوها بحق الجزائريين، وقد قطعت الدولة الجزائرية علاقاتها الدبلوماسية مع طهران بسبب التدخل السافر في شؤون البلاد، بل وصل الحال برجل الدين المعمم أحمد جنتي الذي تولى مجلس صيانة الدستور إلى تأييد ومباركة اغتيال الرئيس الأسبق محمد بوضياف في صيف 1992.
عادت إيران إلى مربع سابق ويتمثل في نشر التشيّع من خلال استغلال الجزائريين الذين يترددون على سورية والعراق ولبنان، حتى أوروبا وإن كان بدرجة أقل، حيث قامت بتكوين جزائريين في الحوزات وقامت بتلميع بعض الأسماء كمشاهير في وسائل الإعلام، وصار لاحقاً لهم دورهم في تسهيل مهمات إيرانية داخل التراب الجزائري.
كانت المخابرات الإيرانية تقدم لهؤلاء المتشيّعين المال بطرق مختلفة بينها ما يندرج ضمن تبييض الأموال المحظور دولياً، حتى يكون لهم قيمة اجتماعية بين أهاليهم، وفجأة تحول تجار الشنطة – بينهم نساء – الذين كانوا يترددون على سورية خاصة إلى أصحاب محلات وعقارات ورؤوس أموال وشركات يعمل عندهم الكثير من المواطنين، وطبعاً يستغلون حاجة الناس في ظل وضع أمني متدهور، وبذلك نجحوا في عدة ولايات من نشر التشيع.
بل الأخطر من ذلك أن المتشيّعين الجزائريين شرعوا في لعب أدوار أخرى من خلال العمل على اختراق الأجهزة الأمنية، حيث يقومون بتجنيد أبنائهم في جهاز المخابرات، وأيضاً يزوّجون بناتهم المتشيعات لضباط في المخابرات والأمن والدرك والجيش، وقد وثّقت أكثر من عشر حالات زواج في عدة ولايات جزائرية وبينهم من صاروا برتب عسكرية سامية، ولا نستبعد أنه يوجد أكثر من هذا العدد.
ساعد في ذلك التركيز على المدارس والجامعات ودور الثقافة، حيث أن التشييع اهتم بالمعلمين والأساتذة والمكوّنين والمدربين الثقافيين، الذين ظلوا يزرعون سمومهم في عقول التلاميذ والأطفال، وقد سبق أن أوقفت وزارة التربية الجزائرية عدداً من المدرسين بسبب غضب الآباء لما ثبت عليهم نشر التشيّع بين الأطفال.
الهدف من التركيز على التشيّع الديني في تلك الفترة هو صناعة عدد كبير من المتشيّعين، وهذا هو رهان المخابرات الإيرانية في وقت شهد انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر وطهران، ولكن بعودة الدفء مع وصول الرئيس بوتفليقة لسدة الحكم، نشط مشروع التشييع وراح يتدرج، وظهرت نتائجه العملية حيث أنه في عام 1996 كان عدد المتشيعين الذين أحصتهم مصالح الأمن لا يتجاوز ألف شخص عبر كامل التراب الوطني، ولكن في 2010 وصل عددهم إلى 3000 شخص في 40 ولاية من بين 48 ولاية، أغلبيتهم الساحقة ترددوا على طهران وقم والنجف.
أما في 2015 فقد تجاوز عددهم 5 آلاف متشيّع في الأربعين ولاية نفسها، وهؤلاء حسب محاضر أمنية كانت تتابع هذا الملف وتعد عنه التقارير، ولكن من دون اتخاذ أي إجراءات ملموسة ضدهم؛ لأن الجهات المسؤولة لما يصلها التقرير تضعه في الأرشيف وتتفادى أي تحرك، فالرئيس عبد العزيز بوتفليقة يرفض أي إجراء ضد إيران، وقد كان يراهن كثيراً على علاقات قوية مع طهران نكاية في دول خليجية كان يعمل عندها مستشاراً في سنوات المنفى الاختياري التي عاشها بعد رحيل الرئيس هواري بومدين في 1978/12/27، وأيضاً لمصالح وحسابات أخرى.
بدأ الحديث في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2015 عن أقلية شيعية في الجزائر، وهذه هي المرحلة التي تراهن عليها إيران، فقد انتقد رجل الدين المعمم مقتدى الصدر تقريراً أمريكياً عن حقوق الإنسان، يراه قد تجاهل في حديثه عن الأقليات الدينية وضع الشيعة في الجزائر، وقد دعا الصدر المتشيعين الجزائريين إلى التحرك وعدم التقوقع ولا الخوف ممّن أسماهم “الثلة الضالة” وهي إشارة منه إلى عموم الشعب من أهل السنّة.
حملة طرد الملحق الثقافي
المخابرات الإيرانية أرسلت عضو الحرس الثوري المدعو أمير موسوي كملحق ثقافي من أجل مهمة تحويل المتشيّعين الجزائريين إلى طائفة محمية بموجب القانون الدولي الخاص بالأقليات، وتتمتع بحقوقها في ممارسة عباداتها، وهذا يعني أن الشيعة في الجزائر سيطالبون بـ”حسينيات” رسمية لهم بدل تلك السرية التي فتحوها في بعض ولايات الوطن التي كانت في مرحلة معينة تفتح في مناسبات دينية مثل عاشوراء فقط، ومؤخراً صارت لهم حسينية سرية دائمة في وهران لكنها تغير مواقعها من حين إلى آخر.
لقد تحرّك الجزائريون ضد الملحق الثقافي الإيراني المدعو أمير موسوي، بعدما ثبت نشاطه الكبير بين المتشيعين، حيث تحول إلى “مرشد مؤقت” لهم، يوجههم ويأتي لهم بالأموال وينظم لهم رحلات رسمية نحو إيران وسورية والعراق، وبينهم من تدرّبوا لدى الحرس الثوري على أمور بينها الاستخباراتية وحتى العسكرية، كما قضوا فترات عند رجال دين خصوصاً في قم وحتى النجف.
المدعو أمير موسوي كانت له علاقات وطيدة مع جزائريين قبل وصوله إلى الجزائر في مهمة “دبلوماسية” في ظاهرها، وساعده في ذلك إعلاميون جزائريون متشيّعون يعملون في فضائيات إيرانية بلبنان وإيران.
لقد أرسله الحرس الثوري كملحق ثقافي كي يكمل مهمة من سبقوه على التراب الجزائري تحت حماية القوانين الدبلوماسية، ومستغلاً العلاقات الوطيدة بين الدولتين، فضلاً عن أن الحكومة الجزائرية – للأسف الشديد – لا تهتم بشأن التمدد الشيعي فهي منشغلة بصراعات وقضايا سياسية أخرى.
الأمن القومي في الجزائر صار مهدّداً، وحيثما تنجح إيران في صناعة كيان للولي الفقيه داخل دولة إلا وورطتها في صراعات مختلفة، سرعان ما تتحول إلى حرب طائفية مدمرة. نجحت المخابرات الإيرانية لحد اللحظة في صناعة أقلية شيعية بالجزائر، ستتحرك لاحقاً للمطالبة باعتراف الدولة رسمياً بها، وتكون محل متابعة من المنظمات والهيئات العالمية في حال رفض الدولة، وستتحول بلا أدنى شك مع مرور الوقت إلى مليشيا ربما تحت مسمى “حزب الله المغاربي” الذي دار الحديث عنه كثيراً في الكواليس، وحاولت المخابرات الإيرانية نهاية القرن الماضي صناعته عبر متشيّعين جزائريين وتونسيين ومغاربة، لكنها فشلت بسبب عدم توفر الظروف من حيث العدد والعدة، والآن مع ما تعيشه ليبيا من انهيار أمني وما يحدث في تونس وأيضاً الجزائر، جعل الأمور ملائمة للعمل الجدي في هذا الإطار، وهو ما يجري بالفعل خصوصاً على التراب الليبي وحتى التونسي.
غير مقبول بالمرة أن تقوم إيران من خلال بعثتها الدبلوماسية في التحرك خارج إطار مهمتها المحددة، وأيضاً التدخل في شؤون دول أخرى صديقة تربطها علاقات وثيقة مع الدولة الجزائرية كما يفعل المدعو أمير موسوي، حيث يتطاول على السعودية والبحرين وتركيا ويتدخل في سورية والعراق وغيرهم، وأيضاً قيامه بتجنيد عملاء استخباراتيين لصالح بلاده، كل ذلك يتنافى مع المهمة الدبلوماسية التي أرسل لها وقبلت الدولة الجزائرية وجوده من أجل ذلك فقط.
لقد ثبت لدينا أن الملحق الثقافي الإيراني تجاوز حدود مهمته بما يهدد الأمن القومي الجزائري، ولذلك أطلقنا حملة “اطردوا أمير موسوي” التي لاقت تجاوباً كبيراً حيث دعمها أكثر من مليون جزائري عبر الإنترنت، كما أن العالم العربي والإسلامي رحب بها وباركها؛ لأنه يرى ما يحدث في سورية والعراق واليمن ولبنان بسبب التدخل الإيراني الذي كان منذ سنوات مجرد حراك لنشر التشيّع، والآن صارت هذه الدول تغرق في حروب طائفية نجسة تسبّبت في قتل وتشريد وتهجير واختفاء وتعذيب واعتقال الملايين من المواطنين، وطبعاً لا خير في كل من لا يعتبر من محنة غيره.
حملة طرد الملحق الثقافي حركت المياه الراكدة حول قضية التمدد الشيعي الإيراني في الجزائر بل حتى في دول المغرب العربي الكبير وكل أفريقيا، وجعلت الكثير من الجزائريين يستشعرون بهذا الخطر الداهم على بلادهم، في انتظار ما ستقرره الحكومة من تدابير تجاه ملف ملغوم قضى سنوات وهو في الظل وقد خدم المتربصين بالأمن القومي الجزائري كثيراً، ويبقى الأمل قائماً رغم أن رد وزير الشؤون الدينية والأوقاف جاء مدافعاً عن السفارة الإيرانية، وبطريقة لا تليق بمنصبه كوزير في حكومة دولة تتمتع بكامل السيادة.
وسوم: العدد 653