علمانية الإسلام
سكتت أضواء القاعة، في محاولة من منظمي الندوة لإسكات الحوار بين المتحاورين عندما وصل الخلاف بينهم إلى حد الاشتباك بالأيدي
ساد الظلام في القاعة وسكت الحوار ، فبدأ الجمهور يغادرون، فخرجت أنا وصاحبي عدنان إلى الشارع نبحث عن مقهى نشرب فيه بعض القهوة لعلها تُذهب عنا اعتكار المزاج والتوتر الذي أصابنا من حوار الطرشان الذي دار في الندوة !!
بعد خطوات قليلة عثرنا على المقهى، فجلسنا، وطلبنا على الفور فنجانين من القهوة ، ولم نكد نرتاح من المشي حتى أخرج عدنان من المحفظة لوحته الرقمية (الآيباد) وكتب فيها عبارة (علمانية الإسلام) فنظرتُ إليه متعجباً وسألته : ما هذا؟ قال : موضوع كتاب بدأت تحريره قبل مدة ثم توقفت، غير أني بعد ندوة اليوم حول "العلمانية والإسلام" قررت أن أستكمل فصول كتابي.
نظرت إليه مستنكراً، وصرخت في وجهه دون تحرج : مجنون أنت ؟! ألم ترٓ كيف هتف الحضور "الله أكبر" وقاموا كرجل واحد ليبطشوا بالذي دعا إلى العلمانية ؟!!
أجاب : نعم، رأيت ذلك، وهو ما يزيدني إصراراً على استكمال تحرير كتابي!
ورشف رشفة خفيفة من قهوته قبل أن يضيف: لقد وجدت في القرآن الكريم ما يشير إلى أنه نزل لكي يؤسس للعلمانية باعتباره آخر الرسالات السماوية، وكأن الله عز وجل اطلع على أهل الأرض فرأى صراعاتهم الدينية والدماء التي تسيل بينهم باسم الدين، فأنزل عليهم القرآن الكريم ليضع حداً لهذه الصراعات رحمة بهم، وتنزيهاً للدين أن يكون مطية وحجة للقتل وسفك الدماء، وهذا ما أود بيانه في كتابي، لعل الذين يستخدمون الدين سلاحاً للصراع وتصفية أصحاب الرأي الآخر يغيرون نظرتهم لا إلى العلمانية وحدها، بل يغيرون نظرتهم كذلك إلى الإسلام نفسه الذي بدأت صورته تتشوّه من جراء عمليات العنف التي راحت ترتكبها اليوم حركات متطرفة باسم الإسلام !
قاطعته : عدنان، يا عزيزي، أنت بالحديث عن "علمانية الإسلام" تعرّض نفسك للتهم الكبيرة التي سبق أن تعرّض لها المفكر الإسلامي الكبير "مصطفى السباعي" رحمه الله عندما نشر كتابه "اشتراكية الإسلام" في عام ١٩٥٩، ذلك الكتاب الذي اعتبر في حينه مليئاً بالمغالطات، بل أكثر من هذا اعتبر الكتاب هزيمة للفكر الإسلامي في مواجهة المد الشيوعي الإلحادي الذي كانت سوقه رائجة في ذلك الوقت،
ورشفت بعض قهوتي وأضفت : عدنان، يا حبيبي، أنت اليوم تجدد غلطة السباعي، لكن بصورة أكثر سفوراً !!
سألني : كيف ؟!!
قلت : إن كتابك هذا عن علمانية الإسلام سوف يعتبر هرولة غير واعية وراء الثقافة الغربية المعادية للإسلام، وسوف يعتبر كذلك هزيمة جديدة للإسلام أمام المد العلماني الذي يجد اليوم سوقهاً رائجة في شريحة واسعة من الليبراليين العرب الذين يعملون بجد على نشر العلمانية بين المسلمين مستغلين حوادث العنف التي ترتكبها بعض الحركات الإسلامية المتطرفة بين الحين والآخر، مما جرّأ العلمانيين على رفع شعار (العلمانية هي الحل) رداً على شعار الإسلاميين "الإسلام هو الحل" !!
قلت ذلك ورفعت سبابتي في وجهه وأردفت : انتبه يا صديقي!! فإن كتابك هذا إن وجدت دار نشر مجنونة توافق على نشره سوف يصبّ لصالح العلمانيين وصالح أعداء الإسلام، ويفتح عليك وعلى الدار عشّ الدبابير من الإسلاميين الذين لن يتركوك بسلام!!
وبعد صمت قصير عدت أتامل وجه صاحبي ونفحته بابتسامة ساخرة وقلت : من المؤكد أن الإسلاميين لن يتركوا دار النشر بحالها، بل سيحرقونها على من فيها كما فعلوا بدار "شارلي إبدو" في باريس انتقاماً لنشرها رسوماً تسخر من النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وختمت بشيء من التحذير : عدنان، هل أنت مستعد لمواجهة بهذا الحجم ؟!
ورشفت رشفة متأنية من قهوتي، واسترخيت في مقعدي، وتنهدت بارتياح، حين شعرت أني أفضيت بما لدي، لكني عدت فأصلحت جلستي، ونظرت لصاحبي نظرة مشفقة وأضفت بنبرة ناصحة : يا صديقي، دعك من وجع الراس، فالمعركة محسومة ضدك مسبقاً، فموقف العلمانيين اليوم قوي، وهم يستمدونه من مؤازرة الإعلام العربي الرسمي لهم ، ومن تأييد وسائل الإعلام المعادية للإسلام!!كما أن الإسلاميين اليوم يتلمظون لاصطياد المخالفين لهم من البسطاء أمثالك، ومع ضحكة ذات مغزى أضفت : يا عزيزي، كفاك النفخ في قربة مثقوبة !
تنهد عدنان متبرماً وقال : قد يكون كل ما تفضلت به صحيح، وهو ما يجعلني أكثر إصراراً على المضي باستكمال كتابي حول علمانية الإسلام .
فقاطعته محذراً ومشفقاً : وهل أنت مستعد لتلقي الاتهامات والانتقادات والمخاطر التي تنتظرك ؟
ردّ عليّ بإصرار وشيء من التحدي : الكشف عن الحقيقة أهم عندي من الاتهامات والانتقادات والمخاطر !!
فقاطعته : ولكن كيف ستبرر حديثك عن علمانية الإسلام في الظروف الحساسة التي نمر بها هذه الأيام، (ثم بشيء من الاستخفاف العلني أضفت) أم تراك لا تدرك طبيعة هذه الظروف؟!!
فردّ عليّ بكثير من الإصرار : بل أدرك هذه الظروف جيداً ، وهي التي تلح عليّ لأكتب كتابي مساهمة مني في وضع نهاية لأعمال العنف التي ترتكب باسم الإسلام، ورغبة مني كذلك في تبرئة الإسلام من تهمة الإرهاب !
سألته : وكيف ذلك ؟!!
قال : يا صديقي بالعودة إلى التاريخ، فالتاريخ يقول لنا إن الفارق الزمني بين ظهور المسيحية وظهور الإسلام يربو على ستة قرون، ما يعني أن المسيحية سبقتنا في التجارب العملية ستة قرون شهدت خلالها خلافات مذهبية معقدة أدت إلى صراعات دينية دامية جعلت رجال الدين هناك والمفكرين والفلاسفة يبحثون عن مخرج يضع حداً لتلك الصراعات العبثية التي دارت تحت شعار الدين ، واستمر الجدل بينهم طويلاً إلى أن وجدوا ضالتهم في العلمانية التي اقترحت سحب ورقة الدين من تلك الصراعات فهدأت الأمور، واستأنفت المسيحية مسيرتها الحضارية التي وصلت بالغرب المسيحي اليوم إلى ما نراه من تقدم علمي واستقرار سياسي بات العالم كله يتشوق إلى مثله، وهذا كله كان بفضل العلمانية التي حولت أنظار الناس هناك للاهتمام بأمور حياتهم اليومية، بدلاً من انشغالهم بالخلافات الدينية !
قال صاحبي ذلك وصمت وراح يحتسي قهوته بشهية بادية وكأنه حقق مراده وأقنعني بما قال ، ثم وضع فنجانه جانباً بحركة مسرحية أراد بها الظهور بمظهر المفكر من وزن ثقيل ثم مضى يكمل حديثه فقال : لا تنسى يا صديقي أن تاريخنا نحن المسلمين كان حافلاً بصراعات دامية لا تقل عما شهده تاريخ المسيحية، واليوم تفاقمت صراعاتنا الدينية المذهبية والطائفية إلى حد بات يهدد بحرق الأخضر واليابس إن لم نتدارك الأمر قبل فوات الأوان !!
وعاد عدنان فرشفت رشفة متمهلة من قهوته قبل أن يضيف : يا صديقي، إن ترك الأمور للزمن لكي يحسمها سوف يحتاج منا إلى ستة قرون التي تفرق بين تاريخنا عن تاريخ المسيحية، وربما أكثر قبل أن نقتنع بالحل الذي وصلت إليه المسيحية بعد الصراعات الدينية المريرة التي مرت بها، وسوف ندفع في هذه القرون ضريبة أكبر بكثير مما دفعت المسيحية نظراً لتطور السلاح الذي أصبح اليوم بين أيدينا، وإذا لم نصغِ إلى درس التاريخ قبل فوات الأوان، فقد لا نخسر الأرواح فحسب، وإنما سنخسر ديننا نفسه الذي بدأت ملامحه تتشوه وبدأ نوره يخبو في خضم صراعاتنا الدينية العبثية، وظهور حركات متطرفة راحت تسطر كل يوم صفحة سوداء جديدة باسم الإسلام، ألا ترى ذلك؟!
ولم أجب، بل نظرت إليه مشفقاً وقلت : إذا قدّر لكتابك أن ينشر فربما يقتنع بعض قرائك بهذا المنطق ! لكن من المؤكد أن الإسلاميين لن يغيروا رأيهم بك وبهذه العلمانية التي تدعو لها
أجاب لى الفور بنبرة منفعلة ويدفع عن نفسه التهمة : لا، لا، لست أنا الذي أدعو إلى العلمانية، وإنما هو التاريخ كما قلت لك ، التاريخ ذلك المعلّم الكبير الذي يردنا القرآن إلى دروسه مرارا وتكرارا، أما سمعت قوله تعالى: "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل" ؟!! وكأن القرآن يقول لنا انظروا إلى أوروبا المسيحية كيف صارت بعد هاتيك الحروب وسفك الدماء !!؟
وعند هذا الحد من الحوار آثرت الصمت، فيما تابع عدنان يقول : كم يحيرني حال المسلمين اليوم!!؟
سألته : كيف ؟!!
قال : يحيرني رفضهم للعلمانية في الوقت الذي يقبلون بأدواتها دون نقاش !!
سألته : مثل ماذا؟!
قال : الديمقراطية مثلاً، ألا ترى شدة تطلع المسلمين اليوم إلى الديمقراطية، بل محاربتهم من أجلها ؟!!
رددت باستنكار : ولكن ما دخل الديمقراطية في موضوعنا ؟!!!
أجاب : وهل الديمقراطية إلا إحدى تجليات العلمانية، وأدواتها الأكثر شعبية بين الشعوب التي ابتليت مثلنا بالدكتاتورية والصراعات الدينية ؟!!!
قلت : أنت يا صديقي تخلط الأمور، وتدخلنا في متاهات شيطانية من الأفكار الغامضة!!؟
قال : لا شياطين، يا صديقي، ولا متاهات! إن سعي المسلمين اليوم وراء الديمقراطية دليل على أنهم يسيرون - عن وعي أو غير وعي - في سكة العلمانية، فما بالهم يجادلون في العلمانية ويعتبرونها كفراً وخروجاً عن الدين ؟!!!
وساد بيننا صمت ثقيل للحظات قبل أن يبدده عدنان بقوله : يا صديقي، إن دراسة تاريخ الأديان المختلفة تدل على أنها تؤسس للعلمانية ، بما في ذلك الإسلام .
ورشف من قهوته قبل أن يعود فيضيف : يكفي يا صديقي أن تستعرض خطاب الله تعالى في القرآن الكريم إلى الرسل لتدرك أن دور الدين في حياة الناس هو الارتقاء بهم أخلاقياً، وليس دور الدين تفريق الناس إلى فسطاطي الكفر والإيمان كما يفعل الإسلاميون اليوم فيثيرون الفتنة والصراعات الدينية في المجتمع باسم الدين ،وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!!
وصمت عدنان قليلاً ثم أضاف : ألا ترى أن الله عز وجل يأمر أنبياءه أن يبلغوا الناس رسالة السماء بالحجة والإقناع لا بالإكراه كما تفعل اليوم بعض الحركات الإسلامية التي تريد فرض" تطبيق الشريعة" على الناس بالإكراه، ناسين أو متجاهلين توجيه الله عز وجل لأنبيائه ومن بعدهم كل الدعاة إلى الله بعدم الإكراه كما قال تعالى :( لا إكراه في الدين ) وقوله:( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وهذا ما يبينه القرآن الكريم بوضوح تام في مواضع عدة وبعبارات قاطعة تفيد أن ليس لبشر كائناً من كان بما في ذلك الرسل أنفسهم أن يفرضوا الدين على الناس بالإكراه كما جاء مثلاً في قوله تعالى : (فذكٍّر إنما أنت مذكر. لستٓ عليهم بمسيطر ) فهو يقول للنبي :(لست عليهم بمسيطر) وفي موضع آخر يقول له : (لست عليهم بحفيظ) وهذا التوجيه القرآني للرسول ومن بعده أئمة الدين صريح في عدم جواز فرض الدين على المجتمع بالإكراه، ومن ثم فإن دعوة الإسلاميين إلى تطبيق الشريعة مخالف لأوامر الله حتى وإن سلكوا الى ذلك الطرق القانونية وحتى لو وصلوا الى السلطة بطريقة ديمقراطية، فالقرآن الكريم صريح تماما بالقول إنه ليس لسلطة أو حاكم كائناً من كان أن يفرض تطبيق الشريعة على الناس بالقوة، ولا أن يحاكم الناس على تدينهم أو كفرهم، كما قال تعالى :(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) أما محاسبة الناس على الكفر والإيمان فهي من حق الخالق وحده سبحانه، وليس من حق السلطة السياسية كما يتوهم بعضهم، وما على دعاة الدين إلا البلاغ كما جاء في قوله تعالى : ( فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) وفي هذه المعاني يلتقي الإسلام مع العلمانية التي تعد التدين أمراً شخصياً بين العبد وربه، وتمنع فرض الدين او تطبيق الشريعة على المجتمع فرضاً كما يريد بعض الإسلاميين بحجة الغيرة على الدين، وهذه من أبرز سمات الإسلام كما أفهمها من القرآن الكريم .
قلت : يا صديقي ، لك أن تفهم كما تريد، لكن الفقه يقول غير ذلك والواقع يقول غير ذلك !!
وأشرت له إلى لافتة قماشية مرفوعة على جدار المسجد المقابل، مكتوب عليها بخط بارز : الإسلام هو الحل !!!
فهز رأسه في حيرة، ورشف دفعة واحدة ما تبقى في فنجانه، فقلب شفتيه بامتعاض كأنما أحس بالمرارة .... وقام يمضي .
وسوم: العدد 653