«اسمعوا كلامي أنا بس»… السيسي يخلع قفّازه
في خطاب ماراثوني مرتجل شهد تحولا ملموسا وربما خطيرا في اللغة السياسية والتوجهات الرسمية، ويصعب الإلمام بكافة ما ورد فيه في هذه المساحة، حذر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي معارضيه ومنتقديه من اتخاذ إجراءات ضدهم بتهمة السعي إلى «تمزيق مصر وضرب معنويات المصريين». نعم ليست هذه المرة الأولى التي يبدي فيها انزعاجه من بعض الإعلاميين، ولعل أشهرها تلك التي استخدم فيها عبارة (مايصحش كده)، لكنها الأولى التي يربطهم فيها بتشكيل خطر على الدولة.
وحتى يكون الأمر واضحا للجميع، أعلن السيسي في جملة غير مسبوقة (أن الممارسة الديمقراطية غير واردة قريبا)، ما يمكن وصفه بالانقلاب على تعهداته قبل انتخابات الرئاسة.
وتكريسا للجدية التي يتعامل بها مع بعض المطالبات بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، أعلن توصيفا جديدا لشروط تركه للحكم يتلخص في (انتهاء الحياة او المدة الرئاسية)، وهو ما يشير إلى أنه أصبح لا يستبعد خروج مظاهرات ضده، وهو ما كان تعهد قبل شهور فقط بأنه سيقدم استقالته فور حصوله.
وفي لغة أقرب إلى اللوم او التهديد او كليهما معا، توجه السيسي إلى الشعب المصري قائلا «اسمعوا كلامي أنا بس»(..)، واتضح تخمينا من سياق الكلام أنه قصد ما يصدر عن المنظمات الدولية بشأن أوضاع مصر، التي قال «إنه اكثر علما بها من أي شخص آخر» (..). وبكلمات أخرى إذا أجمعت منظمات حقوقية مصرية دولية على التحذير من تدهور حقوق الإنسان( كما هو حاصل حاليا)، يكون المصريون مطالبين حينئذ بأن يسدوا آذانهم، وربما ينسحب الأمر نفسه على أي أنباء تتعلق بارتفاع الأسعار وتفاقم أزمات الاقتصاد والتعليم و الصحة والبطالة، مع الاكتفاء دائما بتصديق ما يقوله الرئيس فقط، باعتبار أنه يعرف أفضل من الجميع(..)، حتى إذا كانوا هم من يدفعون الثمن ويعيشون المعاناة يوميا. ومن نافلة القول إن السيسي قرر بالفعل (كما قال) أن ما تمكن من إنجازه خلال عشرين شهرا يفوق ما يمكن لأي رئيس آخر أن يحققه خلال عشرين عاما، وبالتالي فإنه يصبح من غير الحكمة أن يرى المصريون رأيا آخر (..).
لقد كان خطاب السيسي نموذجا كلاسيكيا ينبغي تدريسه، كدليل على الأسباب الحتمية التي تجعل ارتجال الخطب السياسية «عملا كارثيا وربما انتحاريا» بالمفهوم السياسي.
ولا نقول إن الصياغة المنضبطة كانت ستتفادى الأخطاء السياسية التي تشبّع بها الخطاب، لكنها كانت ستجعله أقل استفزازا واضطرابا وضررا للمصلحة الوطنية وصورة النظام، وحتما أقل إثارة للسخرية.
ومن الصعب بمكان تصديق أن السيسي يفتقر إلى أي شخص بصفة مستشار او مساعد او حتى صديق، ينبهه إلى الآثار الكارثية المتكررة للارتجال، وهو أمر لا يتطلب لإدراكه ان يكون ذلك الشخص خبيرا سياسيا.
وهذه محاولة، لن تكون كافية، للتوقف عند كافة ما جاء في ذلك الخطاب من أخطاء او خطايا:
أولا- كانت صادمة حقا، بل وماسة بمقام الرئاسة وكرامة مصر تلك الجملة الانفعالية التي قال فيها (هاقول تعبير صعب جدا جدا لو انفع اتباع عشان مصر كنت اتبعت). وليس مفهوما حقا لماذا أصر السيسي على تلك الجملة وهو يعرف أنها صعبة جدا. وليس مفهوما كذلك كيف يمكن تفسيرها من دون أن تتعارض مع كرامة مصر وأبنائها، وخاصة رئيس الجمهورية الذي هو رمز للشعب؟
ثانيا – إن ترديد السؤال الاستنكاري (هو انتم هتعرفوا الحكومة أحسن مني؟) ينطوي على مصادرة للحق الدستوري للشعب والبرلمان في تقييم عمل الحكومة، بل وسحب الثقة منها إن تطلب الأمر، خاصة إذا أضفنا العبارات الغامضة التي جاءت في نهاية الخطاب (بسبب صياغتها المرتجلة أيضا) وشملت تحذيرات غريبة من انهيار مؤسسات الدولة بسبب تطبيق الدستور(..) الذي يمنح البرلمان بعضا من السلطات التقليدية للرئيس.
ثالثا- ينبغي أن يرد أحد على تكرار السيسي لعبارة إن (الرواتب زادت من سبعين مليارا قبل الثورة إلى مائتين وعشرين مليارا بعد الثورة) حتى أصبحت نوعا من المعايرة والتأنيب للمصريين بأن هذه الزيادة ما زالت أقل كثيرا من المستوى المطلوب لتحقيق حياة لائقة للمواطنين، خاصة بالنظر الى الانهيار في قيمة الجنيه مقابل الدولار بنسبة الثلثين، وبالتالي الارتفاع الواسع في الأسعار في الفترة نفسها. وبدلا من هذه الجملة التي هي حق يراد به باطل، على السيسي مع الحكومة ان يقدما رؤية واضحة لتأمين زيادة أكبر في الأجور مع السيطرة على الأسعار، حتى لا تتبخر كما حدث في الماضي.
أما التطرق إلى الغياب الفادح لقضايا إقليمية في الخطاب، ومواضيع محلية ليست أقل خطورة مما سبق، فإنه يحتاج الى تحليل آخر.
رأي القدس
وسوم: العدد 657