وقفة مع مقولة وزير التربية الوطنية

وقفة مع مقولة وزير التربية الوطنية : " التلاميذ المغاربة  ضعاف في لغتهم الأم ومستواهم  في اللغات الأجنبية هزيل "

يصلح استعمال قول الشاعر العربي القديم : " هل غادر الشعراء " أمام مقولة وزير التربية الوطنية : " التلاميذ المغاربة ضعاف في لغتهم الأم ، ومستواهم في اللغات الأجنبية هزيل " لأن هذه المقولة تكررت على ألسنة  جميع المغاربة  منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن ، فالمربون والمدرسون يعرفون ذلك جيدا ، وعن رأيهم يصدر الوزير في مقولته  ، والأولياء آباء وأمهات يعرفون ذلك جيدا أيضا، والمتعلمون واعون بذلك  تمام الوعي أيضا . ولن يأتي بجديد من يثير ضعف مستوى المتعلمين في لغتهم الأم وفي اللغات الأجنبية . وعندما يقر الجميع بهذا الضعف ،فهذا يعني حصول الضعف في كل المواد الدراسية ما دامت اللغات هي الناقلة لهذه المواد  ، ولا يمكن أن تكون الناقل ضعيف ويكون المنقول أحسن حالا منه . وإذا ما حسن حال اللغات في التعلم حسن حال كل المواد الدراسية ، وإذا ساء حالها ساء حال كل المواد . وليس من السهل تشخيص علة ضعف الأرصدة اللغوية للمتعلمين سواء تعلق الأمر بلغتهم الأم أم باللغات الأجنبية . ومن المزايدات  أن يحمل طرف بعينه مسؤولية هذا الضعف كما يفعل البعض حين يتهمون المدرسين بالتقصير أو حين يتهمون المتعلمين بفتور الهمم والكسل والتراخي، أو حين يتهمون المناهج  الدراسية  بالقصور . وإذا سلمنا بأن الخلل يوجد  في هذا الطرف أو ذاك  ، فما الفائدة من إصلاح طرف دون غيره ؟  ولقد دأبت وزارة التربية الوطنية عبر مسلسلات الإصلاح المتتالية على محاولات تغيير المناهج الدراسية  ظنا منها أن ذلك هو الحل  الأسلم لإصلاح المنظومة التربوية . ولن يتغير حال هذه المنظومة  ما لم ينل الجانب  البشري  حظه من الاهتمام بعيدا عن كل مزايدة أو اتهام . فالأصل في المتعلم ألا يكون عالما بل متعلما، لأن العلم بالتعلم كما جاء في الأثر . ولا عيب في  جهل المتعلم المبدئي  بما يقدم له من معلومات ، وهو جهل بسببه يقصد هذا المتعلم  المؤسسات التعليمية  بل العيب أن يطالب المتعلم بأن يكون عارفا  ومطلعا قبل عملية التعلم . والأصل في المدرس أن يتقيد بالمناهج الدراسية المقررة، فإذا كانت لا تفي بالغرض فلا لوم عليه . والأصل في المناهج الدراسية  أن تنجز على الوجه المطلوب الذي يفي بالغرض ، ولا لوم علي واضعها  إن لم تنجز كما ينبغي . ومشكلة منظومتنا التربوية هو غياب تناغم  الإصلاح بين أطرافها بحيث قد يستقيم طرف دون غيره ،فتكون النتيجة  هي انهيار المنظومة برمتها . وإذا ما نقبنا في مشكل كل طرف نجد متعلم  اليوم له مواصفات فرضها جيله  وعصره ، فهو جيل  يعاصر ثورة تكنولوجيا المعلوميات التي أثرت في طرق التعليم بشكل كبير حيث غيبت قراءة المؤلفات الورقية التي حلت محلها قراءة الشاشات أو البلورات ،الشيء الذي ترتب عنه ضعف المهارات اللغوية لدى المتعلمين ، فضلا عن تضخم زخم المواد المقدمة معلوماتيا مما يضع المتعلم في حيرة من أمره بل يجعله يتخبط أمام عجزه عن استيعاب هذه المواد المترامية الأطراف وعن تنظيمها في دماغه وفق منطق التعلم المتدرج من البسيط إلى المركب ثم المعقد . ومما زاد من ضياع المتعلم في متاهات المجال المعلوماتي تحول هذا الأخير إلى وسيلة تسلية في غاية الإغراء، والتي شغلت المتعلم عن ممارسة عملية التعلم المألوفة . ولقد وجد هذا المتعلم أيضا في الهواتف الذكية مطية لخداع المدرس عن طريق ممارسة الغش المضلل لعملية التقويم . ومن أجل إصلاح هذا المتعلم لا بد من الأخذ في الاعتبار طبيعة جيله وما فرضه عصره من مستجدات لا يمكن تجاهلها في التعامل معه . وأمام هيمنة  تكنولوجيا المعلوميات على الناشئة لا زال تأثير هذه التكنولوجيا على  المناهج  الدراسية  ضئيلا . ومن المفارقات أن الناشئة التي تتعثر في دروس المعلوميات المقررة في المنهاج الدراسي تمارس بحذق الأنشطة المعلوماتية ولكن خارج إطار الدروس النمطية ، ففي الوقت الذي يجيد المتعلم في التعليم الأولي  على سبيل المثال استخدام لوحته الإلكترونية بمهارة نجده  متعثرا في القراءة والكتابة . وقد نجد ضعاف المتعلمين  في المواد الدراسية  بكل أسلاك التعليم هم المهرة في مجال التغريد ، ولكنه مع شديد الأسف تغريد بلا طائل ،بل تغريد يشغل الناشئة عن التحصيل . ويساهم أولياء أمور هذه الناشئة في شغل أبنائهم عن التحصيل من خلال توفير الحواسيب واللوحات والهواتف الذكية لهم . و في المقابل يقف المسؤولون عن المنظومة التربوية عاجزين عن تصحيح مسار تغريد  الناشئة الفارغ وبلا طائل وتوظيفه للتعلم والتحصيل الجيدين . وكان من المفروض أن يلعب تطور تكنولوجيا المعلوميات دورا رئيسيا وجوهريا في اكتساب المتعلمين للغات إلا أنه مع شديد الأسف صارت هذه التكنولوجيا سبب  إفساد وإضعاف المكتسبات اللغوية لديهم ، وظهرت إلى جانب اللغة الأم و اللغات الأجنبية لغات هجينة تخلط بين هذه وتلك في أنساق مختلة القواعد والضوابط  .وهكذا ساهم التواصل بين الناشئة عبر تكنولوجيا المعلوميات  في تعطيل ملكاتهم اللغوية سواء المتعلقة باللغة الأم أم باللغات الأجنبية ، وسهل التغريد عليهم التواصل بطريقة متحررة من قيود القواعد  الضابطة ، ولا تكلفهم مجهودا ، وصارت العامية وهي لغتهم الأم المنبثقة عن العربية الفصيحة ترسم بالحروف اللاتينية ، وتم اختراع حروف لا نظائر لها في  اللاتينية ، و هي تسد مسد حروف عربية عصية على النطق اللاتيني . ويتبين مما مضى أن الحديث عن ضعف اللغة الأم  عند المتعلمين وهزالة أرصدتهم من اللغات الأجنبية دون الإلمام بظروفهم مجرد خبط  . فهل يستطيع المسؤولون عن المنظومة التربوية إعادة المكانة اللائقة بالقراءة والكتابة كما  ينص على ذلك مشروع الإصلاح الخمس ـ عشري ؟ وكيف يمكن إعادة هذه المكانة في خضم ثورة تكنولوجيا المعلوميات  الكاسحة ؟ وهل سيصمد الكتاب أمام اللوحة الإلكترونية والهواتف الذكية ؟ وهل سيستقر اليراع في أنامل الناشئة التي صارت تجيد النقر على البلورات ، ولا تجيد التخطيط ورسم الحروف ؟  وأخيرا أهمس في أذن معالي وزير التربية إن إتقان الناشئة للغات الأجنبية رهين بإتقانها  لغتها الأم في زمن  هيمنة فكرة النحو الكوني الذي يحاول تحطيم الفوارق بين اللغات البشرية ، علما بأن العلاقة  بين اللغات الأمهات واللغات الأجنبيات علاقة جدلية .      

وسوم: العدد 658