مات غوّار الطوشة
جريدة الغد
ذلك الفتى الذي تربّى في بيتنا، أيام الأبيض والأسود. وكان يُضحكنا ويبكينا، وينام بجانبنا كأنَّه فردٌ من العائلة.
كنَّا نتعاطف معه رغم أننا نعرف ان الحق مع ذلك السمين الطيب “حسني البورزان”، وأنَّ “فطّوم” تستحق هذا الرجل الرزين حسني، وليس ذلك الفتى “المحتال” !
مات حسني البورزان، ومات ياسين بقّوش الغلبان، ومات ابو عنتر شيخ الشباب، ومات أبو كلبشة، وربما ماتت فطّوم (لستُ متأكداً )، ومات محمد الماغوط الذي صنع عبقرية دريد لحّام، .. كلُّهم ماتوا ، وما يزال دريد لحام حيّاً. تلك هي الحقيقة الفيزيائية، لكنَّ الذي مات بالنسبة للناس فعلاً، هو الذي اكتشف الناس أنَّه كان “ يُمثّلُ “ فعلاً !
الذي استطاع تنفيس غضب الناس لسنوات طوال، في مهمّة رسمية لتنفيس غضب الناس !
ذلك هو دريد لحام، الذي يدفن الآن بيديه القاسيتين بطلنا الشعبي “غوار الطوشة”، ويتخلَّص من ماضيه ويستنكره بشدة، دافناً عروبته بنكران قلَّ نظيره، حين يخاطب المرشد الأعلى الإيراني بقوله ان بلادنا ازدادت قداسة حين دخلها جنودك !
ويضيف مخاطبا المرشد “ في روحك القداسة، في عينيك الأمل، في يديك العمل، وفي كلامك أمر يلبى”.
هكذا يخاطب بطل “ غربة” و”ضيعة تشرين” و”كاسك يا وطن” الجيش الذي يساعد على ذبح شعبه وتهجيره وطرده من بيوته، وينسى ان الملايين الآن من السوريين هم “ عبد الودود” المرميّ على حدود غربستان أو شرقستان في فيلم “الحدود”.
كيف ينسى ؟
كيف يتنكَّر لكل ما “حفظه” من سيناريوهات.
وكيف استطاع أن يخدعنا كل هذا الوقت.
لستُ في صدد الجدل الذي لن يحسم بخصوص المعارضة والموالاة للنظام السوري، ذلك شأن السوريين آخر الأمر، ولكن السؤال عن حالةٍ كحالة دريد لحام تحديداً، عن بطل “كاسك يا وطن” الذي جعلنا نعتقد أنه أحد أساطير الفن الملتزم العِظام، الممثل الذي جعلنا نبكي ألف مرّة على مسرحية “غربة”، كيف لرجل قدَّم تلك الأدوار أن يصفّق لنظام يذبح شعبه حتى لو كان في آخر الأرض.. فما بالك بشعبه هو ؟!
هل تحتمل “الثقافة” كل هذا الكذب ؟ كل هذا التزوير في الشعور الوطني والقومي والانساني ؟ هل كان كاذباً حقاً وهو يخاطب والده الميت في مسرحية “كاسك يا وطن” بقولته المشهورة “ الله وكيلك يا ابي مو ناقصنا الا شوية كرامة” !
هل هذه هي الكرامة التي كان يبحث عنها ؟ تشريد ملايين السوريين كلاجئين على عتبات الدول !
ماتت تلك الأيقونة . مات “غوّار الطوشة”. دفنه دريد لحام.
ولا أعرف إن كان باستطاعتنا بعد الآن ان نصدّق أي ممثل او كاتب او شاعر.
فحين كنا نتحدث عن الدور التراكمي للثقافة والفن كنا نقصد بالضبط ما كانت تفعله الرسائل والإشارات التي تحملها هذه الثقافة ويحملها هذا الفن . أليست الثورات حصيلة وعي تراكمي . ألم يكن غوار الطوشة ممن صنعوا هذا الوعي.
ألم يكن فنه تحريضاً على الثورات !
فلماذا يدفن رجلٌ نفسه حيّاً !
وسوم: العدد 658