إشكالية المرأة في الفكر الحركي الإسلامي المعاصر
أين المرأة المسلمة في الحركة الإسلامية التي بدأت من منتصف القرن التاسع عشر وما قبله وحتى الآن ؟
هل يتصور مهتم بفكرة التغيير المجتمعي والتغيير الحضاري والفكرة التي تحملها الحركة الإسلامية أن تسير تلك الحركة أو تنجح بغير مشاركة المرأة الواعية المدركة لحجم القضية بما يتناسب والحجم الذي تحتله المرأة في الأسرة والمجتمع والأمة ؟
هل يمكن أن يحدث ذلك التطور المجتمعي والحضاري المنشود في الوقت الذي تعطل فيه نصف طاقة المجتمع ، بل والمؤثرة في النصف الآخر ؟
أثارت قضية المرأة المسلمة جدلا واسعا بين أهل الفقه وأهل الحديث والمتنورين والمجددين والسلفين وغيرهم ، منهم من غالي في مسألة دور المرأة وحقوقها ، ومنهم من قصر لدرجة أن أفتي بتحريم تعليمها أو خروجها من بيت أبيها إلا لبيت زوجها ثم للقبر، مستندين في ذلك لأقوال وأسانيد مبتورة كقاعدة لا تقربوا الصلاة ، ومنهم من صور المسألة صراعا بين الرجال والنساء علي حقوق وليس تكليفات ومهام ، وبين التفريط والإفراط وسطحية الفهم أخذت قضية المرأة بعدا آخر غير حقيقتها لتظل مجرد جدالا لغويا ، ومؤتمرات تعقد وتنتهي بتوصيات تكرر في كل مرة ، فلا المرأة حصلت علي إثر أحدها علي حقوقها ، ولا الحركة استطاعت أن توظفها كما يجب لتجدد ذاتها من خلال إمكاناتها وطاقاتها الكامنة .
ولسنا هنا في معرض استعراض التاريخ الإسلامي لإثبات مكانة المرأة وقدرتها علي مشاركة الرجل بما منحها الله عز وجل من تحرير وحرية بعد الظلم والقهر الذي تعرضت له في الحضارات المختلفة قبل قدوم الإسلام لتحرير الإنسان ككل ، ولست هنا كذلك لتوصيف واقع انحدرت به الأمة في كل مناحيها ، وإنما للفت نظر القائمين علي الحركة الإسلامية إلي أن هناك طاقة مهدرة ، تمثل قدر الطاقة العاملة بالفعل ، إذ كيف نعطل تلك الطاقة أو نستغني عنها أو نتغافل والله عز وجل لم يغفلها وحاشا عنه الغفلة سبحانه ، يقول الله تعالي ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم﴾ [التوبة:72].
كانت تتنزل الآيات المباركات علي نبي الإسلام فيسرع الرجل لبيته يعلم زوجته وأهله القرآن ، وكان الرجل يعود فتسأله زوجته عما نزل من القرآن . ليس علي سبيل الرفاهية أو الثقافة العامة ، وإنما الأمر كان ملزما للنساء كما كان ملزما للرجال .
إن دعوة الإسلام أتت بتكليف الإنسان " رجلا وامرأة " بالفهم والتطبيق وحمل أمانة الدعوة ، ولم يكن تحرير الإنسان الذي أتي به الإسلام والذي أخبره ربعي بن عامر لرستم قائد جيش الفرس حين سأله عما جاء بهم ومن هم فقال " نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من يشاء من عبادة العباد إلي عبادة رب العباد ، ومن جور الحكام إلي عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلي سعة الدنيا والآخرة " ، لم تكن رسالة التحرير تلك حكرا علي الرجل ، وإنما هي لتحرير الرجال والنساء علي السواء ، وكذلك يقوم بها النساء والرجال علي السواء يقول نبي الإسلام صلي الله عليه وسلم " إنما النساء شقائق الرجال "
وفي معرض مساواة المرأة بالرجل في تبعات العمل يقول الله عز وجل : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً * ومن يعمل الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون فيها نفيرا "
ويقول سبحانه في وحدة الأجر: " من عمل سيئة فلا يجزي إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثي وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب "
وحين تنزل الوحي علي نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام ، لم يجد النبي له ملجئا وملاذا سوي زوجته " خديجة " رضي الله عنها ، والتي لم تجزع ، ولم تتهمه بالجنون أو المرض أو المس الشيطاني ، ولم تقف عاجزة عن التصرف ولا وقفت تنتظر منه حلا للأمر الغريب الذي حل بزوجها الصداق الأمين ، بل هدأت من روعه ، وذكرته بمكارم خلقه ، وذهبت به لأهل العلم في زمانها ، ذهبت لابن عمها ورقة بن نوفل النصراني ليسألانه فيخبرهما أنه الناموس الذي يتنزل علي الأنبياء ، وأن محمدا هو نبي آخر الزمان ، ويحذرهما من حرب الأهل والعشيرة والتهجير ، فتكون خديجة هي أول المؤمنين علي الإطلاق ، وتشمر علي ساعديها وتحمل هم الدعوة ، وتحمل عن زوجها هموم الحياة كلها ليفرغ لدعوته ومهمته التي اختاره الله لها .
ويأتي جبريل ليبلغ خديجة السلام من ربها في اللحظة التي تفارق فيها الحياة ، الله عز وجل في عليائه يرسل لخديجة السلام ، فأي شرف تلقته تلك المرأة الأم والزوجة والداعية ، ثم نجد في زماننا من يدعي أن المرأة غير مؤهلة للعمل أو المسئولية ، في حين أنها تحملتها في صدر الإسلام وقامت بخير ما يقوم بها إنسان يعرف ما هي مهمته التي اختاره الله لها .
وتلك أم عمار " سمية بنت خياط " يبشرها ربها وأهلها بالجنة فيقول " صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة " ، وتكون أول روح ترتقي لله شهيدة ، وتكون أو دماء زكية في سبيل الله ، لم تختبئ من كفار قريش وتتلمس الأعذار بكونها امرأة ، ولم ينهرها رسول الله صلي الله عليه وسلم بأنها امرأة ويجب أن تكون في الظل خوفا وحفاظا عليها ، بل كانت كزوجها وابنها ، ولم تضعف وبلغت مرتقي عجيبا بصبرها وإيمانها . كذلك هاجرت المرأة مع من هاجر إلي الحبشة ثم المدينة المنورة ، ثم بايعت نبييها وجاهدت معه في الغزوات والفتوحات من بعده صلي الله عليه وسلم .
وذخرت كتب تاريخ الإسلام بأسماء نساء وصلن لأعلي الدرجات في كل مجال ، في العلم والأدب والفقه .
ولقد مر العالم الإسلامي بفترات انحطاط فكري وهبوط حضاري ، تلك الفترات لم تؤثر علي وضع المرأة ومكانتها في الأمة والنظرة إليها وحسب ، وإنما أثرت في هبوط إنساني شمل الرجل والمرأة ، هذا غير هبوط مستوي المنتج الحضاري ، وفي تلك الفترات اكتسبت المرأة أوصافا وقوانين فرقت بينها وبين شقيقها الرجل ، فحرمت من تحصيل العلم ، وارتياد المساجد ، والعمل ، ثم بدأت الحركة الإسلامية في النصف الأول من القرن التاسع عشر ليظهر الطهطاوي ثم الأفغاني ثم محمد عبده ورشيد رضا ، ثم حسن البنا الذي يجعل للأخوات قسما بجماعة الإخوان المسلمين التي أنشأها غير أن القائمين عليه رجال وليس نساء ، ورأي الدكتور" جمال البرزنجي " وهو يلخص وقائع ندوة الحركة الإسلامية في ظل التحولات الدولية : ( إن الحركة الإسلامية عجزت بكافة فصائلها عن أن تطرح قضية المرأة طرحًا إسلاميًا، مستقلاً، بعيدًا عن ضغوط التقاليد والمجتمع، بحيث تقول هذا هو هدي الإسلام، ودور المرأة في المجتمع المسلم ) .
وحين نرصد وضع المرأة المتأزم في الفكر الإسلامي نجد وللأسف الشديد أن من يعبر عن تلك المشكلة أقلام الرجال وليس النساء ، وكان الأولي أن تقوم المرأة نفسها بتصدر مشهد المشكلة علي اعتبار أنها الأقدر علي فهم ما تعانيه خاصة ، وما يمكن أن تعطيه للأمة علي وجه العموم
وكان النتاج بعيدا عن الموضوعية في نقل المشكلة ، وبعيدا عن الجدية في وضع الحلول لتكون مجرد نظريات غير قابلة للتطبيق في معظم طرح أدواتها.
والحركة الإسلامية هي جزء من المجتمع الإسلامي الكبير ، تأثرت ببعض التقاليد البالية والتي نشأت في فترات الانحطاط والتخلف ، بل واختلطت العقيدة بالتقاليد والعادات المتوارثة وأصبح البعض يراها دينا يجب إتباعه ، منها علي سبيل المثال بعض مظاهر الاستبداد ، والنظرة العامة إلي المرأة ، فقد حاولت الحركة الإسلامية القيام بحركة تطوير وتجديد وظلت فكرة تطوير ملف المرأة بعيدا عن حركة التجديد تلك ، فأبعدوها عن مراكز القيادة واتخاذ القرار ، علي عكس ما كانت عليه في دولة النبوة وحكم الراشدين ، ولم تلتفت الحركة الإسلامية لتلك المشكلة إلا مؤخرا حين ظهرت الحاجة إليها في أوقات المحن التي تعرضت لها الحركة ، ويعلل البعض ذلك بأنه لا توجد الكوادر النسائية المؤهلة لاحتلال تلك الوظائف وفرض نفسها علي الساحة ، في حين لا يعترف هؤلاء أن كم المعوقات التي توضع أمام المرأة كي تؤهل أو تفرض ذاتها كبير، منها المناهج المقدمة لتأهيلها ، ومنها أن اعتراف الرجل بها غير كاف .
أمر آخر وهو أن المطالبين بتجديد مكانة المرأة في الحركة قد حصروها فقط في العمل النسائي ، علي عكس ما حباها الله به من قدرات وطاقات تستوعب الكثير من المجالات ومنها ما لا يحتمله شقيقها الرجل .
والحل كما أراه ليس عند المفكرين في الحركة ، ولا المنظرين ، ولا المؤتمرات ، أو مراكز القيادة ، الحل يوجد لدي المرأة ذاتها ، المرأة التي هي جزء من الصحوة والحركة الإسلامية والتي أثبتت في وقت أزمات الأمة أنها قادرة علي الصمود والعطاء والإبداع ، نجدها في فلسطين ومصر واليمن وتونس وسوريا وقد حملت قضية التحرير لتكون شهيدة ، وأما لشهيد وزوجة لشهيد وأختا لمجاهد ، ومجاهدة تتقدم الصفوف ، وتتفهم الواقع وتصمد في وجه المحن بثبات أسطوري ، فهي إذن تستطيع أن تفعل طالما أرادت أو أتيحت لها الفرصة مثلها في ذلك كالرجل ، بل فاقت بعضهم من الهاربين والمتخاذلين والبائعين والكسالى .
إن علي المرأة أن تنتزع ليس ما يسميه البعض حق ، ولكنه في حقيقته واجب ، يجب عليها أن تقوم بواجبها تجاه أمتها ودينها وذلك ببعض الإجراءات :
1 ـــ أن تقوم المرأة المسلمة بتأهيل ذاتها بنفسها ، تأهيلا جامعا يتوافق مع احتياجاتها أولا ، واحتياجات أمتها ثانيا ، بغير انتظار تشجيع من الرجل أو تقديم مساعدة منه ، فالخطاب القرآني كان مباشرا لها وله علي السواء ، فليس عليها طلب المساعدة فيما يخصها ، بل القيام بالعمل الفعلي وفرض ذلك علي مجتمعها وحركتها
2 ـــ أن تقوم المرأة بوضع تصور واضح يخص قضيتها ، فقد آن لها أن تكف عن المطالبات والشجب والاعتراض ، وتفرض التصور الفقهي الواضح الذي يخرجها من دائرة المتفرج المنتظر ، تصور يقدم حلا واقعيا مستمدا من روح الشرع ، يعبر عن العمق في الفهم والشمول المعرفي وفقه واقع أمتها ، وأن يكون ذلك بتعاون نسائي داخلي لا نسائي رجالي ، تتعاون فيه صاحبات الفكر علي مستوي العالم العربي والإسلامي لتكون الفكرة أوقع وأكثر عمقا ، مستفيدين في ذلك من التجارب المتعددة الواقعية تاريخيا وحاليا لوضع ذلك التصور المستقبلي تشترك فيه العقول المختلفة في كافة أنحاء العالم الإسلامي المترامي الأطراف ، والمفكك جغرافيا وفكريا . والتجربة العملية للمرأة في القرن الأخير تعطيها الخبرة الكافية والقدرة علي وضع ذلك التصور وفرضه علي الواقع العام .
3 ــ علي المرأة المسلمة أن تعرف معني التوازن بين حياتها كزوجة ودورها في الحياة العامة ، فحال المرأة الواعية قبل الزواج يختلف عما بعده بمراحل ، وكأن شخصيتها تتبدل واهتماماتها تتغير بصورة كبيرة ، فتكون مجرد تابعة للرجل ، تتخلي عن عقلها وفكرها وحيويتها لتصير منفذا لفكره ، أو تحصر اهتماماتها لتتحرك في نطاق لا يتعدي جدران البيت ، وقليل جدا من تستطيع أن تتفادى الوقوع في ذلك الفخ إن أسميناه مجازا بهذا الاسم ، ولذلك لا نجد أسماء مبدعات في المجالات المختلفة إلا ربما كن معدودات علي أصابع اليد الواحدة ، تكون الواحدة منهن قد تجاوزت مرحلة الشباب من العمر وذلك لانشغالها في بداية الحياة بأعباء البيت كاملة منفردة ، ولا أنكر أن المرأة في ذلك الوقت تحتاج لمعاونة الزوج لكي تتخفف قليلا من تلك الأعباء طالما رأت عندها القدرة علي الفكر والعمل والإبداع .
إنني حين أتوجه بحديثي نحو المرأة لا أعفي أيا من الأطراف في تهميش دور المرأة الأسرة والمجتمع ونظام التعليم وتوجه الحكومات والموروثات البالية ومفكري المسلمين ، بل أحمل الحركة الإسلامية والقائمين عليها نصيبا كبيرا في تلك القضية ، لكنني أيضا ألقي بالتبعة الأكبر علي المرأة والتي استطاعت بالفعل حين دعي داعي الجهاد أن تفاجئ الجميع وتقف علي ثغرات متعددة ، والثورات العربية مؤخرا خير شاهد ورفع راية الجهاد في بعض بلاد المسلمين خير شاهد علي ذلك كذلك .
لقد آن الأوان أن تقوم المرأة في الحركة الإسلامية بالتكليف الموكل إليها من السماء ، وآن للقائمين علي الحركة الاعتراف بقدرتها علي الصمود والثبات والتجديد والإبداع إن هي توفرت لها أجواء الحرية المناسبة فالأمة تمر بفترة تحتاج فيها لكافة سواعد أبنائها ، وكافة العقول والقلوب المخلصة الواعية دون تعطيل لطاقة كامنة لدي المرأة يمكن أن تكون تلك الطاقة بناءة ، أو يستخدمها أعداء الأمة لتدمير ذاتها ، اسأل الله لأمتنا النهضة والسلامة وأن تجد تلك الهمسة آذانا مصغية قبل فوات الأوان .
وسوم: العدد 659