شرعية حصار المدن ومسؤولية تجويع المدنيين
مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات
مع تزايد النزاعات المسلحة في العصر الحديث؛ تلجأ الأطراف المتنازعة، دولا كانت أو جماعات إلى سياسة حصار الدول والمدن المأهولة بالسكان المدنيين؛ كنوع من العقاب الجماعي أو وسيلة للضغط على الخصم لتحقيق الأهداف والحصول على تنازلات.
ويختلف الحصار المفروض على الدول والمدن باختلاف الوقائع والظروف، فقد يكون الحصار حصارا دبلوماسيا؛ ويتمثل في قطع العلاقات بين الدول أو إنقاص درجة التمثيل. وقد يكون حصارا اقتصاديا؛ يراد به التّضييق اقتصاديًّا على بلد من البلدان بمختلف الوسائل. وقد يكون بحريا؛ ويراد به منع وصول المُؤَن والذّخائر إلى موانئ العدوّ عن طريق البحر في وقت الحرب. وقد يكون حصارا عسكريا؛ ويراد به إحاطة الجيوش للمدن أو الأهداف العسكريّة، وقطع وسائل الحياة والاتِّصالات عنها؛ وذلك لدفع أهلها إلى الاستسلام.
ربما يفرض الحصار من دولة ضد دولة أخرى مثل: حصار إسرائيل للبنان سنة 1982، بهدف إضعاف أو طرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. وحصار القوات الصربية لسراييفو بهدف القضاء على الدولة الوليدة للبوسنة والهرسك وقيام بدلًا مِنها الجمهورية الصربية للبوسنة والهرسك. وقد يفرض الحصار من المجتمع الدولي من خلال الأمم المتحدة أو مجلس الأمن والذي يعرف باسم "العقوبات الدولية" وكذلك من خلال الاتحادات الإقليمية مثل الاتحاد الأوربي والاتحاد الأوربي. ومن الملاحظ أن ظاهرة العقوبات الدولية هذه قد زادت خلال الجزء الثاني من القرن الماضي وما زالت مستمرة وأصبحت أداة من أدوات السياسة الخارجية للدول ــ خصوصاً الدول الكبرى ــ وذلك من خلال العقوبات الفردية أو تلك التي تفرض من خلال الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
ويستخدم الحصار دوليا كوسيلة لحمل بلد معين على الامتثال للمقررات الدولية. وهو تارة يتخذ شكلا اقتصاديا وتارة أخرى عسكريا ومرة سياسيا. والأمثلة على ذلك متعددة في العصر الحديث منها: الحصار الذي فرض على العراق في تسعينات القرن الماضي على خلفية احتلاله للكويت، ومنها الحصار الاقتصادي المفروض على إيران على خلفية برنامجها النووي وحصار إسرائيل لغزة، وحصار السعودية لليمن.
وقد يفرض الحصار داخليا في إطار النزاعات الداخلية من طرف القوات النظامية ضد مليشيات المعارضة وضد التنظيمات الإرهابية، أو من طرف مليشيات المعارضة ضد القوات الحكومية، مثل حصار الجيش العربي السوري للمناطق التي تقع تحت سيطرة الجماعات المسلحة. وحصار الجماعات المسلحة للمناطق المؤيدة للحكومة السورية. وحصار القوات العراقية لمدينة الفلوجة في الرمادي الواقعة تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، وحصار هذا التنظيم لعدد من الاقضية والنواحي التابعة لمحافظ الانبار مثل قضاء حديثة وناحية البغدادي. وقيام تنظيم (داعش) بتحصين حدود مدينة الموصل ببناء خندق ونصب جدار إسمنتي، أطلق عليه اسم 'سور الخلافة'.
والسؤال هنا هو ما مدى شرعية أو عدم شرعية الحصار الاقتصادي والعسكري المفروض من طرف الدولة ضد المناطق الخارجة عن سيطرتها وبالعكس على مستوى القانون الدولي الإنساني؟ وفي حال وجود مبررات عملية للحصار المفروض، ما هي الحدود المسموح بها التي لا تتعارض مع حقوق الإنسان؟
يؤدي الحصار سواء كان دبلوماسيا أو اقتصاديا أو عسكريا، جزئيا أو كليا، مؤقتا أو دائما إلى عدد كبير من الانتهاكات الخطيرة لحقوق السكان المدنيين والمدن المحاصرة، مثل منع دخول الغذاء والدواء والبضائع، وانقطاع للخدمات كالكهرباء والماء والاتصالات.
وقد سُجّلت حالات وفيات عديدة بسبب نقص التغذية. كما أدّى نقص الدواء، وعدم قدرة الكثير من المرضى على الحصول على أدويتهم، أو الخدمات الطبية التي يحتاجونها، إلى وفاة العديد منهم، وخاصة المصابين بفشل الكلى والسرطان، والأطفال الرضّع ومن هم دون سن الخامسة، ممن لم يتمكّنوا من الحصول على حليب الأطفال والأدوية اللازمة. ويؤدي الحصار إلى منع وصول الخدمات الطبية أو توقف المؤسسات الطبية في داخل المناطق المحاصرة عن تقديم خدماتها نتيجة للنقص الحاد في المستلزمات الطبية والأدوية. ويؤدي الحصار إلى العديد من الأزمات الاجتماعية نتيجة لتقطع العائلات عن بعضها، فالكثير من العائلات بقي بعض أفرادها خارج منطقته، حيث فرض الحصار أثناء وجودهم خارجها، ولم يعد بإمكانهم العودة إلى بيوتهم، وفي بعض الأحيان لم يعد بإمكانهم طمأنه ذويهم عن مكان تواجدهم.
يؤدي الحصار إلى مشاكل بيئية كبيرة، نتيجة لاستهداف خدمات الصرف الصحي من جهة، وانقطاع خدمات جمع النفايات من جهة ثانية، مما يراكم النفايات بصورة كبيرة، الأمر الذي يجلب القوارض والحشرات، ويساعد في انتشار الأمراض والأوبئة. فضلا عن ذلك يؤدي الحصار إلى منع التداول المالي للبنوك التجارية لتغطية احتياج السوق المحلي من العملة الصعبة وتسهيل التحويلات المالية من الخارج إلى الداخل وبالعكس. وهو الأمر الذي يجعل إمكانية الحياة في المناطق المحاصرة تقل مع مرور الوقت، وتؤدي إلى نزوح أو هجرة عدد كبير من سكان هذه الأحياء إلى مناطق أخرى.
تأسيسا على ما تقدم، يشدد القانون الدولي الإنساني على حظر استعمال المجاعة كوسيلة حربية ضد الأشخاص المدنيين، وحظر مهاجمة الأعيان التي لا غني عنها لبقاء السكان المدنيين، أو تدميرها، أو الاستيلاء عليها، أو تعطيلها لهذا الغرض. وعلى حظر مهاجمة الأعيان التي لا غني عنها لبقاء السكان المدنيين، أو تدميرها، أو الاستيلاء عليها، أو تعطيلها. وحظر تهجير السكان المدنيين بالقوة حظرا عاما، نظرا إلى أن هذا التهجير غالبا ما يؤدي إلي انتشار المجاعة.
ويؤكد القانون الدولي الإنساني على ضرورة الالتزام بقبول أعمال الإغاثة ذات الطابع الإنساني وغير المتحيز المخصصة للسكان المدنيين، وفقا للشروط المنصوص عليها في القانون الدولي الإنساني، عندما توشك المواد الأساسية أن تنفذ. ويحث القانون أطراف النزاع الحفاظ على شروط تسمح للسكان المدنيين بتأمين معاشهم، لاسيما بالامتناع عن اتخاذ أي تدبير يستهدف حرمانهم من موارد تموينهم أو الوصول إلى زراعتهم أو أراضيهم الصالحة للزراعة، أو حرمانهم بصفة عامة من المواد التي لا غني عنها لبقائهم.
وبالنسبة إلى السكان المدنيين المحرومين من الماء، يشدد القانون على أن الماء مورد حيوي لضحايا النزاعات المسلحة والسكان المدنيين، وأنه لا يمكن الاستغناء عنه لبقائهم، ويناشد أطراف النزاع أن تتخذ كل الاحتياطات الممكنة لكي تتفادى في عملياتها الحربية أي عمل من شأنه تخريب أو الإضرار بمصادر المياه ونظم التموين بالمياه ومعالجتها وتوزيعها التي يستخدمها المدنيون وحدهم أو أساسا. ويطلب إلى أطراف النزاع ألا تحول دون وصول المدنيين إلي المياه، بل تمهد لهم السبيل لكي يمكن إصلاح نظم التموين بالمياه المتضررة من جراء الأعمال العدائية.(قرار 2، الصادر عن المؤتمر الدولي السادس والعشرين للصليب الأحمر والهلال الأحمر، جنيف 3-7 كانون الأول/ديسمبر 1995).
وتطبيقا لتلك المبادئ، أعلن النائب الأول للأمين العام للأمم المتحدة يان إلياسون: "إن حماية المدنيين في ظروف النزاعات الحربية لا تتطلب إصدار قرارات دولية جديدة، فثمة ما يكفي من الاتفاقات الدولية اللازمة لكنها غير مطبقة" وقال "إن الحصار الذي يمنع الناس من الوصول إلى ما يلبي حاجياتهم الحيوية، يعتبر من أفدح خروقات القانون الدولي وإساءة للقيم الإنسانية». وذكر أن الأمين العام للأمم المتحدة قد أدان في الأيام الأخيرة هذه التصرفات واصفاً إياها «بجرائم الحرب».
ولما تقدم تُشكل جريمة حصار المدن وفقاً للقانون الدولي الإنساني جريمة إبادة جماعية، لما تتركه هذه الجريمة من آثار واسعة على سكان مناطق بأسرها، بقصد إلحاق أضرار مادية ومعنوية بهم، وإخضاعهم عمداً لأحوال معيشية يُقصد بها إهلاكهم الفعلي كلياً أو جزئياً. إن هذه الجريمة، وبما تحمله من انتهاكات واسعة على حياة عدد كبير من السكان، تفوق في خطورتها جريمة استخدام الأسلحة الكيميائية والأسلحة الحارقة، كما أن هذه الجريمة تتصف بخطورتها من ناحية بطء الآثار المميتة لها. وبالتالي نخلص إلى أنه ليس هناك أي مبرر يسوق للأطراف المتنازعة فرض حصار المدن والسكان المدنيين أو الاستمرار في هذا الحصار مهما كانت الأسباب والظروف مادامت حياة المدنيين ومعاشهم مهددة بالخطر.
ويقتضي مبدأ الإنسانية توفير حماية خاصة للإنسان في مناطق النزاع المسلح، من خلال الكف عن كل ما هو دون الضرورة العسكرية، ويدعو إلى تجنب أعمال القسوة والوحشية في القتال، خصوصا إذا كان استعمال هذه الأساليب لا تجدي في تحقيق الهدف من الحرب وهو تحقيق النصر وهزيمة العدو، فقتل الجرحى أو الأسرى أو الاعتداء على النساء والأطفال أو على المدنيين غير المشاركين في الأعمال القتالية بوجه عام كلها أمور تخرج عن إطار أهداف الحرب، ومن ثم تعد أعمال غير إنسانية.
المقترحات
1. التشديد على أطراف النزاعات المسلحة الداخلية، بضرورة مراعاة المبادئ الإنسانية باعتبارها قواعد قانونية ملزمة، والسعي قدر الإمكان على خلق التوازن بينها وبين الضرورة العسكرية بشكل يمكن من خلاله تحقيق أكبر قدر ممكن من الحماية الإنسانية لضحايا هذه النزاعات.
2. ضرورة إلزام أطراف النزاع المسلح باحترام المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني، لأنها تهدف إلى حماية حقوق الإنسان أثناء النزاعات المسلحة بصورة عامة، عن طريق بيانها لوسائل وأساليب القتال بما لا يتجاوز الضرورة العسكرية، وإقرارها أن للإنسان حرمة مصونة لا يجوز خرقها.
3. ضرورة تطبيق قواعد المسؤولية الدولية أثناء النزاعات المسلحة غير الدولية، من أجل رصد الانتهاكات الجسيمة لأحكام القانون الدولي الإنساني المطبقة على هذه النزاعات المسلحة.
وسوم: العدد 660