فصائل م.ت.ف ومحمود عباس

المقابلة التي أجراها محمود عباس مع القناة الثانية الصهيونية يوم الخميس في 31/3/2016 لا تترك مجالا للإدعاء أنه لا يعمل لإنهاء الانتفاضة، أو أنه توقف، أو قلّل، من التنسيق الأمني مع الاحتلال. الأمر الذي يفرض على كل قادة فتح وكوادرها، ممن أعلنوا، أو خطبوا، بأنهم مع الانتفاضة، وأنهم مشاركون فيها، اتخاذ موقف حازم من تصريحات محمود عباس ومواقفه، وما كشفه من جهود أمنية فلسطينية في مناهضة الانتفاضة، مثلا، قوله: "إن قوات الأمن الفلسطينية تذهب إلى المدارس وتفتش حقائب التلاميذ للتأكد من أنهم لا يحملون سكاكين لمنع العمليات".

وضرب مثلا آخر على فعالية هذا الإجراء قائلا: "إن الأجهزة الأمنية الفلسطينية عثرت في مدرسة واحدة على 70 سكينا، في حقائب التلاميذ وصادرتها". وأضاف: "وقد أقنعتهم أجهزة الأمن الفلسطينية بعدم جدوى القتل أو الموت على الحواجز الإسرائيلية". طبعا الإقناع هنا أن الأجهزة الأمنية اعتقلت التلاميذ الذين وجدت بحوزتهم سكاكين وأخذتهم للتحقيق وعذبتهم وهدّدت أهاليهم. فقول محمود عباس إن الأجهزة الأمنية "أقنعتهم بعدم جدوى القتل أو الموت على الحواجز الإسرائيلية" يجب أن يُفهَم وفقا لتقاليد الأجهزة الأمنية في "إقناع" من يُتهم بمقاومة الاحتلال أو التعرّض للمستوطنين. وهنا يكفي سماع تجربة كثيرين من الذين تعرّضوا للتعذيب لدى الشاباك الصهيوني ولدى الأجهزة الأمنية الفلسطينية، إذ قالوا إن الأجهزة الأمنية الفلسطينية أشدّ وحشية وقسوة وهمجية من وحشية الشاباك وقسوته وهمجيته.

إذا كان محمود عباس توسّع بإرسال أجهزته الأمنية كل صباح لتفتيش حقائب تلامذة المدارس إن كانوا يحملون سكاكين، فهل هنالك ما هو أشدّ فضيحة وأفسد عملا، وأكثر خدمة للاحتلال والاستيطان وتواطؤا معهما، من هذا التصميم على وقف الانتفاضة؟

والأنكى أن يفعل ذلك بعد فشل استراتيجيته وسياسته عبر التسوية والمفاوضات، وفشل كل ما قدّمه من خدمات لنتنياهو عبر التنسيق الأمني ليعطيه ولو بعضا من السيطرة على مناطق (أ). وكان ذلك مقررا في اتفاق أوسلو ثم سحب عام 2002 بعد إعادة احتلال مناطق (أ) و(ب). ومنذ ذلك الوقت عادت تلك المناطق تحت السيطرة الكاملة للاحتلال. وقد قبِل محمود عباس، بعد أن تسلم الرئاسة الفلسطينية، أن يوقع في ظلها اتفاق التنسيق الأمني بإشراف كيث دايتون، وإعادة بناء الأجهزة الأمنية على القياس الصهيوني – الأمريكي. أي كرّس احتلال تلك المناطق.

ومع ذلك كرّر عدّة مرّات في أثناء المقابلة المذكورة بأنه "مستعد لاستئناف المحادثات مع نتنياهو. بل أبدى استعداده للقاء نتنياهو، وباللغتين العربية والإنكليزية، قائلا: "سألتقي به في أي وقت. وبالمناسبة اقترحت عليه أن نلتقي". وعندما سئل ماذا كان جواب نتنياهو؟ أجاب: "لا، لا، هذا سر، يمكنه هو أن يقوله لكم".

يعني هل من المعقول أن تصل الأمور بمحمود عباس إلى هذا الدرك من التعارض مع ما تريده أغلبية فتح المنتكبة، والمقهورة، الضائعة والمرتبكة؟ وهل من المعقول أن يذهب إلى هذا المستوى هو وأجهزته الأمنية في تحدّي إرادة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة ومناطق الـ48 وفي كل بلدان الشتات؟

إذا كانت فتح ما زالت صابرة ومحتمِلة، وبغض النظر عن الأسباب، فلماذا تستمر الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وحزب الشعب، ومن ينتسب إلى الفصائل في م.ت.ف، في الصبر على تغطية محمود عباس من خلال البقاء معه تحت سقف اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي وسلطة رام الله. علما أنها اتخذت قرارا، وبإجماع، في المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية بوقف التنسيق الأمني. وطالبت بإعادة النظر في الاتفاقات السابقة. وكرّرت كل منها مرارا في أثناء الانتفاضة المطالبة بوقف التنسيق الأمني.

ولكن محمود عباس ضرب بذلك القرار عرض الحائط منذ اللحظة الأولى. بل وقرأه، عمليا، بأنه دعوة لتصعيد التنسيق الأمني، والمضيّ بحماسة أكبر في التوسّل لنتنياهو باستئناف المفاوضات التي تسمّيها كل الفصائل بالعبثية.

وهنا يبرز السؤال: أوَلَم يحوّل محمود عباس كل مواقف شركائه في المجلس المركزي واللجنة التنفيذية إلى مواقف عبثية فيما أصرّ على سياسة استئناف المفاوضات باعتباره الشيء الجدّي الوحيد في الموقف الرسمي الفلسطيني لمنظمة التحرير التي يرأسها وينطق باسمها ويمثلها؟

أما الشيء الجدّي الوحيد الآخر الذي يتبنّاه، عمليا، فهو التنسيق الأمني. وقد طبّقت أجهزة الأمن الفلسطينية تنفيذه، من خلال تعليمات محمود عباس، في كل مدرسة وبيت ومكان عمل فلسطيني. وهو ما لا يستطيع الاحتلال فعله. ولهذا يمكن القول أن استمرار الاحتلال للضفة الغربية، وحتى في القدس، يرجع إلى التنسيق الأمني والجهود التي يبذلها محمود عباس لوقف الانتفاضة، وشلّ فصائل المقاومة المتعاونة معه، من أن تنخرط في الانتفاضة، وتشكيل وحدة فلسطينية لتصعيد الانتفاضة وتحويلها إلى انتفاضة شعبية شاملة.

يجب على فصائل المقاومة، ولا سيما الجبهة الشعبية، ثم الديمقراطية ثم الفصائل الأخرى، ألاّ تستمر في هذه العلاقة مع عباس، وذلك بالإعلان عن موقف من الانتفاضة ووقف التنسيق الأمني، وتحقيق الوحدة الوطنية من جهة، ولكن عمليا ترك أمر التنفيذ لمحمود عباس، وتغطيته تحت حجّة المحافظة على م.ت.ف والوحدة الفلسطينية من جهة أخرى، الأمر الذي يؤدي في المحصلة، ومهما كانت النيّات، حسنة، أو صادقة، إلى إطلاق يد محمود عباس وأجهزته الأمنية في مناهضة الانتفاضة وحماية الاحتلال والاستيطان وتكريس سجن الأسرى وإحكام الحصار على قطاع غزة.

يحدث هذا في الوقت الذي بمقدور الجبهة الشعبية وفصائل م.ت.ف الأخرى وضع حد لهذا الخلل الخطير في الوضع الفلسطيني؛ لأن محمود عباس لا يستطيع أن يستمر في سياسته الأمنية والتفاوضية، إذا ما سُحِبَ غطاء هذه الفصائل عنه، وذلك بعقد لقاء وطني يضمّها مع حماس والجهاد والحراكات الشبابية في الانتفاضة، ويتخذ موقفا موحدّا من تصعيد الانتفاضة وتحقيق أوسع وحدة وطنية في ظلها.

فالمطلوب تشكيل جبهة متحدّة للانخراط الواسع في الانتفاضة، ولتحريك الشوارع بتظاهرات وإضرابات واعتصامات تحت هدفين أساسيين وهما: رحيل الاحتلال وتفكيك المستوطنات من القدس والضفة، وبلا قيد أو شرط، ويصحبهما فورا إطلاق كل الأسرى وفك الحصار عن قطاع غزة، الأمر الذي سيُحرّك فتح للانضمام إليها أو للضغط على محمود عباس لوقف التنسيق الأمني، والمضيّ بالانتفاضة لتحقيق هدَفَيْها بدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات. أي تحرير القدس والضفة وبلا قيدٍ أو شرط. هذا وبلا أيّ حديث عما سيؤخذ من خطوات بعد ذلك، حيث لكل حادثٍ حديث، ويُترك للشعب أن يقرّر ما سيفعل بجلد الدب بعد اصطياده.

وبالمناسبة، يجب أن يُردّ على محمود عباس حين يدعي أنه ضدّ انتفاضة السكاكين؛ بالقول له: تفضل لإطلاق تظاهرات وإضرابات حاشدة جماهيرية وسلمية لا تتوقف إلاّ بدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات. أما التذرّع بأنك ضد انتفاضة السكاكين فحجّة واهية لعمل لا شيء، وإبقاء الاحتلال مستمرا والاستيطان مستشريا. وهذا ما تفعله بالضبط. فأنت لا تريد مواجهة الاحتلال لا سلما ولا حربا. وأُقفل قلبك على التفاوض.

أما الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وفصائل المجلس المركزي؛ فالطابة في ملعبها في عدم تصعيد الانتفاضة وترك الحبل على الغارب لمحمود عباس ليطبّق سياساته باسمها. بل وتكفي ستة أشهر من الانتفاضة وإعلان سياسات ومواقف حوّلها محمود عباس إلى شكلية وعبثية. ولكن إلى متى؟

وسوم: العدد 663