الخطاب المسجدي المحرَّف
سلمت السلطة الحاكمة معظم مساجد البلاد للخطباء المنتمين للطائفة الوهابية وذلك لحاجة ( أو حاجات ) في نفسها تتمثّل أساسا في إفراغ الخطاب الديني من الفاعلية وتهميش بيوت الله وشغلها بالمعارك التاريخية والمناقشات البيزنطية التي تُفني الأعمار وتذهب بالجهود في غير طائل ، و تلك الطائفية لها براعة معترف بها في الوفاء بالغرض لأن دعوتها تتلخّص في الحياة الماضوية والمسائل " العلمية " الغارقة في الجزئية والهامشية.
رغم رفعها لشعار الانتماء الديني الأصيل والتمسك بالمذهب المالكي ورفض ما تسميه " التيارات الوافدة " إلا أن السلطة – في الواقع – تتساهل جدا في توظيف من يُطلق عليهم " السلفيين " في مناصب الإمامة والخطابة ، وتمنح لهم بسخاء لافت رخص التطوّع لإلقاء خطب الجمعة والدروس المسجدية ، فما شكل ومحتوى ومنحى هذا الخطاب النمطي المحرَّف الذي أصبح سائدا في أكثر الجوامع ؟
أما أصحابه فهم من خريجي مدرسة الرأي الواحد المعروفة بالجمود الفكري والعُقَد النفسية ، لا يعرفون من الألوان إلا الأبيض – هو حكر عليهم - ، والأسود – وينتظم غيرهم جميعا - ، لا يعترفون باختلاف في الرأي ولا تنوّع في الانتماء أو الطرح ، ثقافتهم ترديد لما يُطلقون عليه " آراء السلف " ، لا مكان عندهم لتجديد أو اجتهاد ، شعارهم الضمني " ليس في الامكان أبدع ممّا كان " و " ما ترك الأول للآخر شيئا " ، يرون الكفر والبدع في كلّ حركة وسكنة ، ويصرّون في خطابهم على أن ما يقولونه هو الحقّ المطلق لأنه – ببساطة – ما عليه السلف الصالح ، أما ما تطرحه المدارس الاسلامية الأخرى سواء كانت فكرية أو فقهية أو حركية فهو بالضرورة ضلال وابتداع .
وهناك قاسم مشترك بين أغلب هؤلاء الخطباء هو سلاطة اللسان وقبح المنطق واتهام النيات ، في مخالفة صريحة للهدي النبوي الكريم ، لديهم ظاهرية ابن حزم وليس لديهم علمه ، لا يأخذون من ابن تيمية إلا المسائل التي تشدّدَ فيها أو شذّ .
أما مضمون الخطاب فهو ما يقتضيه انتماء أصحابه ، ليس فيه جديد لا في الشكل ولا في المحتوى بل هو تكرار تمجّه الأسماع وأفكار تلفّها الرتابة ، موغلة في السطحية والضحالة والشذوذ ، هو بوضوح تام خطاب علماني بثوب سلفي يُعطي لقيصر أكثر ممّا يُعطي لله ، شغله الشاغل هو " تحديات خطيرة " تتهدّد المسلمين هي : بدع القبور التي لا تكاد – في نظرهم - تنجو منها عقيدة مسلم متمسك بدينه !ثم الشيعة الذين ينسفون الجزائر نسفا ويغزونها غزوا حثيثا ! ثم الإخوان " الخوارج أعداء الله " الذين أفسدوا الدين بخروجهم على " ولاة الأمور " ، وقبل كلّ هذا وأخطر منه إعراض المسلمين عن السنة النبوية رغم صلاتهم وصيامهم وحجّهم ، أي عن إعفاء اللحية وعود الأراك وتقصير الثوب والأكل باليد ونحوها من الأعمال الضخمة الشاقة المضنية التي لا يقدر عليها إلا أولو العزم من الرجال من أمثال " أتباع السلف " !
وكم من خُطب منبرية خصّصوها لهذه الموضوعات وأبدوا فيها وأعادوا ، أما التحديات الماثلة أمام أعينهم والمفاسد التي تملأ البلاد وتزداد اتساعا فلا يبصرونها ولا يعبؤون بها ولا يلتفتون إليها لأنها تقتضي المواقف الصلبة والشجاعة الأدبية وقول كلمة الحق ، فلا مكان في خطابهم لتحديّ التغريب الذي يُسنّ بالقوانين ويستهدف هوية الأمة عبر إفساد المرأة والأسرة والتربية ، ولا مكان للحديث عن الرشوة التي أصبحت تعاملا عاديا في مؤسسات الدولة ، ولا حتى عن التنصير الذي تدعّمه أوساط سياسية وإعلامية بشكل سافر ، وامتدت اللامبالاة إلى العُري الذي عمّ النساء إلا ثلة قليلة جدا ... ما سبب هذا الإرغاء هناك وهذا الصمت هنا ؟ الموضوعات الأولى التي يُفرغون فيها جهدهم تسير مع هوى الأنظمة الحاكمة لأن فيها تنويما للعقول وإلهاء للناس عن القضايا الكبرى والتحديات الحقيقة ، أما الموضوعات الأخرى فيتفادونها لأنها تزعج الحُكام ، وقطب الرحى في ثقافة المداخلة والجامية – وهم غلاة الوهابية التي تتصف هي ذاتُها بالغلوّ - هو الدوران مع رضى الحُكام حيث دار وعدم المشاغبة عليهم ولا معارضتهم ولو بالكلمة الرصينة حتى ولو أمَر الدين بذلك ، ونظرا إلى أن هذا الخطاب المحَرّف يناسب الهمم الكليلة وأصحاب المستوى العلمي والنفسي الضعيف فقد التفّ حوله كثير ممّن لفظتهم المنظومة التربوية ولم يجدوا لهم مكانا في عالم الأفكار ولا الأعمال الجادة تكلّسوا في تديّن لا فهم فيه ولا بصيرة ولا عاطفة منضبطة بالشريعة ، ملؤوا المساجد عجيجا وضجيجا ، لخّصوا الصلاة في أشكال وحركات أقرب إلى البهلوانية لا علاقة لها بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ( رغم ما يروّجون بلا علم إلا اتباع شيوخهم الأعراب الذين ابتدعوا الخطاب المحرّف) ، ولم يصبر كثير من المسلمين العاديين – فضلا عن المثقفين وطلبة العلم - على ما آلت إليه المساجد وخطابها فهجروها فرارا من الرداءة وتحريف الغالين وانتحال المبطلين وطبقوا " واجعلوا بيوتكم قبلة " ، فخلت الأجواء لمجموعة متزايدة العدد من حُدثاء الأسنان فارغي العقول قساة القلوب فأماتوا الدين تماما كما ترغب الأقلية التغريبية الحاكمة.
إن تحريف الخطاب المسجدي جزء من خطة طبقها أكثر من نظام عربي تستهدف تجفيف منابع التديّن ، ولأن إغلاق المساجد نهائيا غير ممكن فقد عمدت إلى إطفاء شعلتها وإخماد فاعليتها بالخطاب " السلفي " الذين يردّد أن نموذج الخلافة الاسلامية هو نظام الحكم السعودي !!! يردّد هذا خطباء لا بضاعة لهم سوى ما استقوهُ من المطويات التي توزع مجانا بملايين النسخ تنشر المذهب الوهابي وتكافئ الطلبة المجتهدين في الببغاوية بمنح دراسية هناك تعلّمهم ان الأرض ليست دائرية الشكل ولا تدور حول الشمس وأن أهمّ المباحث الدينية هي محاور عذاب القبر والمسيح الدجال ولعن اليهود والنصارى ، وذكّرني هذا بالشروط التي وضعها سليمان القانوني لخطباء الآستانة – عاصمة الدولة العثمانية – وأهمّها أن يكون الإمام حسن الهندام ، متقنا للغات الحية آنذاك ( العربية والفارسية واللاتينية ) ولديه إلمام بالعلوم الانسانية والكونية ، وشتّان بين خطباء عهود الرقي والازدهار وخطباء عهود التخلف والردة الحضارية.
تبعًا لما سبق لم تعُد بيوت الله تؤدي رسالتها الدينية والدنيوية ولا حتى توفّر السكينة والطمأنينة لروّادها إلا في حالات قليلة وعلى يد أئمة أتقياء عرفوا مهمتهم فقاموا بوظائف الإرشاد والتعليم والتذكير وتقوية الإيمان عن وعي وبصيرة ، يعبّدون الناس لله لا للحُكام ، يمرّرون الخطاب المسجدي الأصيل عبر أجمل وأحسن الأساليب ، يبشرون ولا ينفّرون ، يجمعون ولا يفرّقون ، يحببون الدين للعباد بعيدا عن السباب والشتم والقبائح التي تلوّثت بها المنابر على أيدي " أتباع السلف الصالح " ، وكما يتنادى المخلصون بإنقاذ المدرسة والأسرة والمجتمع من التغريب يجب أن يتنادوا بتخليص المسجد من أسر دعاةٍ على غير بصيرة ينشرون الكراهية والتعسير والشقاق باسم السنة وبرعاية من أطراف يخدمها أسلوبهم ، بينما ينتظر الناس من بيوت الله أن تشيع المحبة والأخوة والرحمة ، ولا يجوز أن ننسى أن الجماعات القتالية التي تُذيق المسلمين الويلات في أكثر من بلد تخرّج معظم أفرادها من مساجد تروّج الخطاب المحرّف حيث تشبّعوا بالبغضاء والقسوة والنظرة السوداوية للدنيا.
وسوم: العدد 668