الإمام البنا لم ينهض من فراغ وإنما نهض ليسد الفراغ
الإسلام السياسي لا نعرفه لا منطوقاً ... ولا مفهوماً
(( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ))
وفي العصر الذي يسمونه عصر غروب الأديان ، وتواريها وتنحيها ، عن الحياة العامة والخاصة ، وعلى المستويات الاجتماعية والفردية ، يبقى الإسلام ( دين الله الظاهر ) هو الدين الأشد رسوخا والأكثر انتشارا وظهورا ، رغم كل جهود الكيد الممنهجة للذين ما زالوا حائرين : كيف يطفئون نور الله .
وفي عصر ضعف المسلمين ، بل انحطاطهم ، وتشرذمهم ، وضياعهم ، وغلبة أعدائهم عليهم ، وترصدهم بهم ، من بين أيديهم ومن خلفهم ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، يبقى الإسلام قائما وحده ، متفردا وحده ، متقدما وحده ، منتصرا وحده ، يحمله الغر الميامين من أولي البقية من الفئة الظاهرة ، لا يغيرون ، ولا يبدلون ، ولا يتخاذلون ، ولا يثاقلون ، ولا يفرطون ، بهم يلحق التالي ، وإليهم يفيء الغالي ، لا يضرهم من مكر ، أو غدر ، أو استكبر ، أو استعجل أو استبطأ ؛ حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون
ولقد تفنن أعداء الإسلام ، من المنقلبين عنه وعليه من بنيه وداعميهم وموظِفيهم وممكنيهم ، في محاولات الكيد ، وبالغوا في أساليب المكر ، وخاضوا حروبهم ضد هذا الدين ظاهرة وخفية ، باردة وساخنة ، ناعمة وخشنة ؛ متحدين على دعوته ودعاته ، على شقاق بينهم ، فكان من أخطر حروبهم، وأبعدها أثرا الحرب الثقافية الفكرية ، بختل المسلمين عن دينهم، وتشويه حقائقه ، وطرح الأغاليط حول مفاهيمه ، ونبذ بعض شعائره وشرائعه بالسوء ، واختراع المصطلحات المجافية لها ، مرة باسم (التمدن) وأخرى باسم ( التطور ) وثالثة باسم ( الحداثة ) ، وكأن الحق لم يكن قديما ، وكأن الخالق لم يكن العالم بمن خلق وما خلق ، يفعلون كل ذلك إغراقا منهم في عمليات التشكيك والتفتيت والتمزيق والمراوغة وضرب نصوص الشريعة ببعضها. وكان أشر وسائلهم وأخبثها اختراق حصون المسلمين من داخلها ، وتسليط أبناء الإسلام بعضهم على بعض . وكان من أخطر ما صنعوا وزيفوا مصطلحات ( الإرهاب ) و( التطرف ) و( الماضوية ) و( الطوباوية ) يرمون بها الإسلام والمسلمين . وكان من أخطر ما زينوا وموهوا تجميل ما يمكن أن نسميه ( الإسلام الكنسي ) الذي يصفونه بالوادع الجميل وما قابلوه به من مصطلح (الإسلام السياسي ) الذي يصفونه بالتمرد والتطرف الخطير. فكان الإسلام الكنسي حلية أوليائهم ، ومطلب عملائهم وولاتهم القائمين على أمر هذه الأمة بالباطل ، وكان الثاني عبية السوء ، وعنوان الشر . وما كان الإسلام دين الله الظاهر إلا واحدا وكاملا متكاملا ، يأبى التقسيم والتعضين ، وينبذ هذه المصطلحات وأصحابها .
لقد بعث الله سبحانه وتعالى نبيه بالهدى ودين الحق ، فأكمل الدين ، وأتم الرسالة النعمة ، وشهد شاهد الحق لبلاغ الرسول بالحق ، أنه بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة فما كذبها ، ولا غشها ، ولم يستزله أحد من المشركين على كثرة المغريات، وتتابع الضغوط والعقبات ، عن بعض ما أنزل إليه ، ولا ضاق به صلى الله عليه وسلم صدره ، بل ظل قائما بالحق متحملا لأمانة القول الثقيل ، صادعا بما أُمر حتى توفاه الله . وقد ترك أمة الرسالة من بعده على المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها نورا وضياء ووضوحا ، لا يزيغ عنها إلا هالك.
وخلفه صلى الله عليه وسلم على أمر هذه الرسالة خلفاء راشدون ، وأصحاب مبلغون ، فطاروا بها ، إلى أقطار الأرض في بعض قرن من الزمان فبلغوها مشارق الأرض ومغاربها ، يهدون للناس الرحمة ، ويهدونهم سواء الصراط . حتى شهد الشاهد من أعدائهم : أنه ما عرف التاريخ فاتحا أرحم منهم ، ولا أعدل منهم ، ولا أقوم على الحق بالحق منهم .
ثم حمل هذه الرسالة من كل خلف عدوله من الراسخين في العلم ، القائمين على كلمات الله بالقسط لا يغيرون ولا يبدلون . لا يستفزهم طمع ، ولا يرهبهم فزع ، ولا يستخف بهم صاحب قوة من سلطان أو مال ، ولا يثنيهم عن أداء الرسالة التي تحملوا تهديد ولا وعيد ...
حتى إذا صارت ديار العرب والمسلمين إلى القرن العشرين ، ووئدت الخلافة التي كانت تشكل، وعاء الإسلام الحق وحاضنه ، ودرع المسلمين وحصنهم ، على ما أصاب بنيانها من وهن، فغاب بغيابها المرجع والحاضن ؛ قام قائم الإسلام على أرض الكنانة في شخص الإمام الشهيد حسن البنا ، فاستأنف المسير ، وتحمل بما دعا مع من استجاب إليه ، مسئولية القول الثقيل، فأعاد إنارة المحجة ، ونفى عنها تراكمات القرون ، وتخرصات أصحاب الأهواء من غير ادعاء ولا استئثار .
لم يحجر الإمام البنا رحمه الله تعالى واسعا ، ولم يدع باطلا ، وإنما أعاد التأكيد على الخطوط العريضة لدعوة الإسلام بالفهم المتجدد ، ودعا كل معني بدين الله أن يكون شريكا في حمل المسئولية ، وأن يكون له شرف الانضمام إلى الركب ، واللقاء تحت اللواء والراية ، والصبر على المكاره حتى تتحقق الغاية : (( حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه )) . ويكون الدين كله لله وليس بعضه على ما يزين اليوم الكنسيون . ليكون لله ما لله ولله قيصر وما ملكت يداه .
ولم ينطلق الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله تعالى من فراغ ، وإنما انطلق ليسد الفراغ ، ويقوم على الثغرة ، وكان نداء رسول الله صلى الله وسلم عليه ( كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغر الإسلام ، الله َ ..اللهَ لا يؤتى الإسلام من قبله ) يملأ قلبه وعقله وكذا عقول وقلوب كل السائرين معه ..لقد امتلك البنا رحمه فقها في دين ، ورؤية ثاقبة لأحوال المسلمين فأسس وأجمل ، وأبان وفصل.
لم يقم الإمام البنا رحمه الله تعالى في فراغ ، ولم يدع إلى نافلة من أمر هذا الدين ، وإنما دعا إلى واجب كفائي ، تأثم أمة الإسلام إن تخلت بجمعها عنه ، ويسد بعض بنيها عن بعض . ولم يدع الإمام البنا إلى حزب ، وإنما أسس جماعة ، ولم يدع أنها جماعة المسلمين ، وإنما أكد أن كل العاملين الصادقين الفاقهين لحقائق الإسلام مع هذه الجماعة في ساح واحد ، ويعملون على محور واحد ..
ومرة أخرى ، لم يقم الإمام البنا رحمه الله تعالى في فراغ ، ولم يدع المسلمين للقيام بواجب كفائي لأمة الإسلام مندوحة عنه ، بل كان فيما دعا إليه يقوم بواجب الوقت والفريضة المتعينة ، التي لا يصح لمسلم عاقل راشد أن يتشاغل عنها ، وهي الأهم ، بأي مهم آخر .
واليوم وبعد قرن من الزمان على قيام الإمام البنا مجدد القرن الرابع عشر الهجري بلا منازع ، وجوهر الإسلام ودعوته وشريعته ومشروعه الرحمة للعالمين تعتوره الخطوب بما سلط عليه أعداؤه من دعاة الغلو من المحسوبين عليه ، من الذين يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، مع الحرب المكشوفة التي يشنها أعداء الإسلام الصريحون ؛ تبدو أن المعركة حول ما دعا إليه الإمام البنا أشد وضوحا ووجوبا ، وأكثر أولوية وتقدما ، لتوضيح جوهر الدعوة الوسط والمشروع المتجدد في دعوة الإسلام الحق .
ومن حقنا ونحن بين يدي قرن من دعوة الإمام البنا أن نتساءل : أي وهن يُدخله قوم على دين الله أن يصوروا للأجيال الواقعة بين مطارق فتن الكنسيين الضالين والغلاة المنحرفين أن شأن الإسلام هو شأن القبعة البيضاء يضعها الرجل في جيبه ، حتى إذا صار إلى المسجد تغطى بها وهو يؤدي ركيعات يرضى بها عن نفسه ، أو يرضي بها بعض من حوله؟!
أي وهن يدخله قوم على دين الله إذا كان دين الله ليس حالا يصاحب المسلم في جامعه وجامعته في منامه وقيامه ، في مكتبه وعيادته ومختبره وعلى كرسي وزراته ، والأخطر فيما يدعون ويفعلون ويرتكبون ويزيفون أنهم يفعلون هذا باسم الإسلام ، ومشروعه السابغ الرحمة للعالمين ...؟!
أي معنى هجين لمصطلح اصطنعه لنا الأباعد والأراذل ( الإسلام السياسي ) فقبله البعض ولبسوه ، كما تلبس الخرقاء ثوب الزور فلا هي كاسية ولا هي عارية ، وهو مصطلح تأباه شريعة الإسلام ، ودعوته ومشروعه ، مصطلح اقترحه الأعداء ، وتقمصه الكنسيون من المحسوبين على الإسلام من هنا وهناك ، ثم تتايع عليه من بعد متتايعون ، يزعمون أنهم للإسلام ينتصرون ...؟!!!
خذوا الإسلام جملة أو دعوه ، حقيقة أول من يطالب به الدعاة إلى الله ، والقائمين على أمر الله . وهي حقيقة لا تلغي التدرج الحكيم ، وإدراك متطلبات واقع معقد متشابك على صعيد التطبيق العملي اليومي المحاط بالعقبات على كل صعيد ، وإنما تحتج على هذا التدرج أن يكون على صعيد الوعي لمضمون الرسالة ولمشروع الدعوة على صعيد التصور وعلى صعيد الإدراك في العقول والقلوب ...
نتفهم أن يكون الأمر واضحا في ذهن الداعية ، وأن يعلم أنه بيقينه الجواني الداخلي ( يعلم ما يريد ) ؛ ولكن الذي خاف منه الإمام أحمد رحمه الله هو الذي نخاف ، والذي حذره يوم صبر على السجن ووقع السياط هو الذي نحذر ، قيل له وهو يعرض على السياط أن يفتدي نفسه بكلمة فقال : فكيف بمن وراء الباب ...
أيها الدعاة المخلصون الصادقون العاملون الفاقهون جميل أن تفكروا بمن وراء الباب من أشياعكم وليس من غيرهم ...
(( وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ..)).
وسوم: العدد 670