بين القائد والمدير ...أي فروق !؟

رابني أن أرى كثيرا من الناس لا يميزون بين القائد والمدير ..فأحببت أن أكتب فأتتبع بعض الفروق مع علمي أنني لن أحيط بالكثير . فالفارق بين القائد والمدير جوهري وليس وظيفي . فارق في التكوين وفي الرؤية والموقف والاستعداد والدور ، فارق في البداية معلوم وفي النهاية متحقق؛ المدير يحال إلى التقاعد فيغتبط أو يبتئس ، والقائد يرابط على ثغرته وهو في آخر القوم أو على هامشهم لا يستقيل ولا يقال ولا يقيل ...

وأعجب شيء مرّ عليّ في حياتي أن رأيت من كانوا قادة معلَّمين ، يحملون ( معاطفهم ) من مكاتبهم وينزوون . كسرت كعوبها أو تستقيما هكذا قالها الشاعر العربي من قبل ، وهكذا يجب أن تكون ...

نازلت كبشهمُ ولم أر من نزال الكبش بدا

وأقول أول مدير رأيته في حياتي هو ( مديرة ) روضة الأطفال . ثم مدير المدرسة الابتدائية والإعدادية والثانوية . وأول حاجب رأيته حاجب مدير التربية في المبنى العثماني لمديرية التربية في حلب ببابه العريض الأريض . في شامنا الحبيب نسمي الحاجب آذنا بمعنى أن مهمته أن يفتح لا أن يغلق ويمنع ثم استدارت بالناس الأيام . وعلى غرار مدير التربية علمونا أن أمام كل وزير ووزارة في كل مركز محافظة مدير فأخذنا نسمع بمدير الصحة ومدير المواصلات ومدير الأشغال ...

ثم تخطت بي الحياة فبدأت أسمع بمصطلحات مثل مدير المصنع ، ومدير المستشفى ، ومدير المنطقة ، ومدير الناحية ، ومدير البنك ، ومدير الشركة ، ثم رفعت رأسي إلى من أطلقوا عليه مدير الشركة المتعددة الجنسيات ؛ وقلما اكتحلت عيناي بمرأى واحد من هؤلاء ..

وكانت صدمتي الأكبر في الحياة عندما بدأت تطرق سمعي مصطلحات مثل مدير السجن ، و مدير الخوف ، ومدير الفزع ... مدراء كلهم يثيرون الخوف ويبعثون القشعريرة ويقف لذكرهم شعر الرؤوس ، وأحيانا يذكرونك بشجرة الزقوم وطلعها كأنه ..

ومنذ عقود بدأ يطرق سمعي مصطلح علم جديد ، لم نكن سمعنا به في آبائنا الأولين . بدؤوا يحدثوننا هكذا ( الإدارة أصبحت علما ) ( الإدارة علم وفن ) . وأصبحت إذا زرت مكتبة للتسوق أو معرضا للكتب تتراقص أمام عيني أغلفة صقيلة بعناوين براقة ( كيف تصبح مديرا ناجحا ) . و(الثورة في عالم الإدارة) . و( عشر علامات للمدير الناجح ) مع أسماء علماء وأساتذة منهم خواجات ومنهم محليون ،كتب مؤلفة وأخرى مترجمة حتى أكاد أقول إن الحديث عن علم الإدارة غدا ( صرعة العصر ) و ( موضته ) وحديث المتأنقين فيه .

 وتطور موضوع هذا العلم في ثلاثة عقود بسرعة العصر الذي تأسس فيه ، وانضم العلم إلى الفن إلى عصر السوق والتسويق فامتلأت الأرفف والمكتبات بمئات بل بآلاف العناوين كلها تحوم حول علم الإدارة وفنها والمدير الناجح ومواصفاته ، وكيف يدير وقته ، ويعزز علاقته بمداريه ، ويحدد أهدافه ، ويستفيد من صغير الطاقات من حوله وكبيرها . كان مشايخنا الذين لم يسمعوا بهذا العلم ولم يدرسوه يعلموننا لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد ، ويلقوننا لا أحد فوق أن يستعين ولا دون أن يعين . وأحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... وكلام كثير أعيد فكفكته وتركيبه ليكون علما جديدا تشرئب إليه الأعين وتخضع له الأعناق ...

كل ما قيل ويقال وكتب ويكتب عن الإدارة والمدير هو مادة صغيرة فيما يقال عن القائد ودوره ومكانته والمنتظر منه ..

عندما نذكر القائد أولا فنحن لا نذكر روضة أطفال ولا مدرسة ولا جامعة ولا إدارة ولا وزارة ولا مستشفى ولا شركة ولا أي مؤسسة ذكرناها أو نسيناها أعلاه ..

القائد يقود عالما آخر غير تلك التي ذكرنا ، ويسعى إلى أهداف أخرى غير تلك التي تتبناها تلك المؤسسات ..

القائد يقود : أمة ، وشعبا ، وجماعة ، وحزبا ، ونهضة ، وثورة ، ومتفقين، ومختلفين ، فيجعلهم وحدة كالبنيان المرصوص ، ومن براعة القائد ألا ينفرط عقد من جمع ، ولا يتبدد شمل من وحد فيكونون بعده كمن تهوي به الريح في مكان سحيق ...

وأول صفات القائد الناجح وأدناها وأقربها أن يكون مديرا ناجحا ومن هذا المصاف ينطلق . ومقتل القائد أن يقتصر على دور المدير هذا إذا نجح فيه ، فأما أن يكون لا ذا ولا ذياك فأعان الله قوما كان بلاءهم ...

ومن أبسط صفات القائد الناجح أن يكون واثقا من نفسه ومن قدراته ومن مشروعه الذي يعمل عليه ويدعو إليه .

القائد الناجح يكون أولا في كل ما يدعو ، وفي كل ما يحض ويأمر ، يسير الناس بسيره إذا سار ، وإن هو أومأ إلى الناس وقّفوا ..

قيل للإمام علي رضي الله عنه في قيادته ، وافتراق الأمة عليه ، واجتماعها على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فأجاب: كنت وأمثالي جنودا لأبي بكر عمر وأصاب رضي الله عنه في بعض وجانبَ في آخر ، أليس هو من قبل بيعة من لا تقبل منهم بيعة ، ولا يستكثر منهم في عدد ولا عدة حتى قال لهم فيما بعد لقد ملئتم جوفي قيحا ..

يقولون إن القائد الناجح يصنع مَن حوله ، ومن الحق أيضا أن القائد الناجح يصنعه من حوله إذا أحسن الاصطفاء ...

نقول في عهد عمر فتح الشام والعراق ومصر وسقط يزدجرد وننسى كثيراً أسماء القادة الذين صنعوا في الميدان الانتصارات ولكنهم أيضا كانوا قادة وكانوا رجالاً ...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 673