الإيضاحُ في الرَّد على "وضَّاح"
الإيضاحُ في الرَّد على "وضَّاح"
د. محمد عناد سليمان
أخي الفاضل وضَّاح، جاء في تعليق خاصّ لكم ما يلي:
«وَبمَ تخالف هذه الأحاديث نصَّ القرآن الكريم، ثم كيف لا ينظر إلى وجود الحديث في الصِّحاح؟ وقد أجمعت الأمة على البخاري ومسلم، أرجو التَّوضيح».
وللتَّوضيح نقول:
أولاً: القول إنَّ ما في «البخاري»، و«مسلم» صحيح على إطلاقه، هو قول يخالف الحقيقة، ولا تثبتُ هذه الحجّة عند التَّحقيق، لعددٍ من الأمور:
1-وجود تناقض بين الأحاديث في الصَّحيح الواحد، من مثل:
-ما ورد في حادثة المعراج، فأنس رضي الله عنه يرى أنَّ المتدلِّي هو الله سبحانه وتعالى، وحكم عليه «الخطَّابي» بأنّه من أشنع وأفظع ما ورد في «البخاري»، بينما يراه غيره أنَّ المتدلٍّي هو «جبريل»، و«ابن عبَّاس» يثبت أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم قد رأى ربَّه بعينيه، ثم نجد السِّيدة«عائشة» رضي الله عنها تصف من قال ذلك بالكذب، وكلُّ هذا في الصِّحاح؛ بل في الصّحيح الواحد.
-حتى إنَّ الإمام «النَّووي» في شرحه للترمذي قد أثبت الرُّؤية، وقدَّم قول ابن عبَّاس على قول عائشة رضي الله عنهما، بل جعل ذلك راجحًا بين العلماء، فقال: «فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء». وهو بذلك ومن طرف واضح يرفض حديثًا في الصحاح، لأنَّ حديث «ابن عباس» كما قال العلماء: هو صحيح الإسناد. إضافة إلى أنَّه يحاول في قوله «الرَّاجح عندأكثر العلماء» أن يوهم اللاحق أن ما ذهب إليه هو الصَّواب، وهي عادة كثير من أهل العلم، إذ يجنحون إلى المبالغة لتأييد رأيهم وفكرهم.
-يدلُّنا على ذلك التَّناقض الذي وقع فيه «النَّووي» نفسه حين أورد حديثًا لعدم رؤية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لربَّه، وفي ذلك يقول أحد العلماء: «فإذا كان الإمام النووي يؤكد هذا المعنى، ويميل إلى هذا التأويل فما باله يذهب مرة أخرى إلى أن النَّبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه؟! فهذا يؤكد صحَّة ما ذهبت إليه عائشة رضي الله عنها من أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربّه في تلك الليلة». وحتى لا أطيل، فلستُ بصدد دراسة الأحاديث وردِّها، ونرجو من الأخ أن يعود إليها في مواضعها من الكتب، وما قاله العلماء فيها
-ما ورد في أحاديث أعور الدجَّال، فمرة رجل، مرة في آخر الزمان، ومرة ثالثة أعور العين اليمنى، ثم اليسرى، وحديث الجساسة الذي ردَّه كثير من أهل العلم ممن قالوا بـ«إجماع الأمَّة».
2-إن قول من سبق «أجمعت الأمَّة»، هو من باب المبالغة، فالأمَّة لم تُجمع على كيفية دخول المسلم إلى الحمَّام، ولعلَّهم يقصدون –إن أحسنَّا الظنَّ- أنَّ معظم ما ورد فيهما هو صحيح؛ لأنَّ من قال ذلك القول هو نفسه من أنكر بعض الأحاديث الواردة فيهما، وحكم بالبطلان على بعضها؛ بل بالوضع على بعضها الآخر، على نحو ما نجد في:
-حديث سحر النَّبي صلى الله عليه وسلم، وحكْم الجصَّاص عليه بأنَّه من وضع الملاحدة.
-حديث خلق الله الأرض في ستة أيام، وحكم ابن القيم وابن تيمية وغيرهما عليه بالبطلان.
-حديث تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، وحكم السيدة عائشة رضي الله عنها بأنَّه نسيان وخطأ من روايه عبد الله بن عمر بن الخطَّاب.
3-أرى أنَّ البخاري ومسلم لو لم يسميا كتابيهما بالصِّحاح لما ذهب العلماء من بعدهم إلى القوم بأنَّ جميع ما فيهما صحيح، فلو سمياه «مسندًا» فهل سنجد مثل هذا القول عند من تبعهم؟ وهنا أذكر قولا وأظنُّه لابن جني: لو قالت العرب عن القلم حمارًا وعن الحمار قلمًا، لقلنا عن القلم حمارًا، وعن الحمار قلمًا.
4-هناك بعض أهل العلم ممن يفضلون بعض كتب الأحاديث على البخاري، على نحو ما وجدناه عند بعض المغاربة، فيما يذكره السيوطي في حسن المحاضرة، حيث يفضلون النسائي عليه، ومنهم يونس بن عبد الله المعروف بابن الصفَّار، وكان يقول:إنَّ من شرَّط الصَّحَّة فقد جعل لمن لم يستكمل في الإدراك سببًا إلى الطَّعن على ما لم يدخل وجعل للجدال موضعًا فيما أدخل. وهو كلام في منتهى الدقَّة والتَّوصيف للحال التي سبَّبت كثيرًا مما وقع فيه القوم.
وهذا يدحض حجَّة من قال: «أجمعت الأمَّة».
5-ومما يقوِّي ما ذكرناه من ردِّ الإجماع أمران:
الأوَّل: أنَّ الحاكم في مستدركه قد خرَّج كثيرًا من الأحاديث التي تصل إلى المئات مما اتفق عليه الشِّيخان، ولم يورداه في صحيحيهما، وكان يورد عبارة «على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه»
الثًّاني: ما قاله ابن تيميه رحمه الله حيث جاء: «أجمع سلف الأمة وأئمتها على أن المؤمنين يرون الله بأبصارهم في الآخرة، وأجمعوا على أنهم لا يرونه في الدنيا بأبصارهم، ولم يتنازعوا إلا في النبي عليه الصلاة والسلام.وثبت عنه في الصحيح أنه قال: «واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت» يعني: حتى يموت فيبعث يوم القيامة. فبعد هذا الإجماع المنعقد من الأمة المبني على الدليل: «واعلموا أن أحداً منكم لن يرى الله حتى يموت».
-فانظر أخي رعاك الله إلى مبالغته في قوله: «أجمع سلف الأمَّة»، ومن السَّلف من خالف كما سبق ذكره كابن عباس، وما ذهب إليه النَّووي، وقوله النَّووي: ««فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء»، فهل هناك دليل أكثر من هذين القولين؟ الأول يرى أن السلف قد أجمع، والثاني يرى أنَّ الرجح عند أكثر أهل العلم؟ والقولان في مسألة واحدة، والنتيج متعاكسة؟!
ثانيًا: قولكم: «وبم تخالف هذه الأحاديث نصَّ القرآن الكريم»:
-لسنا أول من يرى ذلك، أو يذهب إليه، فكما أشرتُ قبل قليل، فالسيدة عائشة رضي الله عنها تردُّ حديث ابن عباس القائل برؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربِّه بعينيه الباصرتين، حيث جاء: «فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهنَّ فقد أعظم الفرية على الله: من زعم أنَّ محمدا رأى ربَّه فقد أعظم الفرية على الله، والله يقول: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب«.
-ومنه أيضًا رغبتها رضي الله عنها في أن نعرض ذلك على القرآن الكريم، كما في «البخاريُّ» /1288/ حيث قال: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَقَالَتْ حَسْبُكُمْ الْقُرْآنُ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى».
-فلا أدل ولا أجمل من عبارتها «حسبكم القرآن»، وهو ما يؤيده حديث «مسلم» في صحيحه قبل أن تعبث به يد السّياسة /1218/ : «... وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ فَقَالَبِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ.
وللزيادة: يظهر في هذا الحديث أمران:
الأوَّل: قول السَّيِّدة «عائشة» رضي الله عنها: «حسبكم القرآن»، في إشارة واضحة إلى صحَّة عرض ما وصلنا من «حديث» على «القرآن الكريم».
الثاني: عدم الرَّضا عمَّا يرويه «عبد الله بن عمر»، وتصحيح ما رواه، ونسبة ذلك إمَّا إلى «النِّسيان»، أو «الخطأ» كما يرويه «النَّسائي» /1833/ حيث جاء: «عَنْ عَمْرَةَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ وَذُكِرَ لَهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ قَالَتْ عَائِشَةُيَغْفِرُ اللَّهُ لأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَكِنْ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا فَقَالَ إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّب».
-وحديث «النّسائيّ» في أعلى درجات الصّحَّة عندي لتوافقه مع قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}الأنعام 164.
وأخيرً أخي: يثبت لدينا «لا ننظر إلى الصِّحاح»؛ ولا إلى مكان ورود الحديث؛ بل ننظر إلى متن الحديث،وفي ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: «وأما قوله: «هذا إسناد صحيح» فلا يستلزم قطعاً صحَّة المتن، فقد يكون السَّنَد صحيحاً والمتن شاذاً أو به علَة، ومن علل المتن أن يخالف كتاب الله».
-ونحن لا نردّ الأحاديث برمَّتها كما زعمت في تعليق سابق، وكما ترى هنا وفي مواضع أخرى، وفي مقالات كثيرة نستشهد بها، ونؤيدها ما لم تخالف نصَّ القرآن الكريم، ونقبلها ونرحِّب بها، وما قاله بعض العلماء من «إجماع الأمَّة» هو رأي لهم، ووهْمٌ وقع فيه اللاحقون؛ لأنَّ من قال به خالفه، ولعلَّ قولهم من باب المبالغة كما أشرتُ سابقًا، لكن المشكلة في اللاحق الذي جعل قولهم نتيجة مطلقة، وحقًا خالصًا، ونزَّل «الصِّحاح» منزلة «القرآن»، بل إنَّ بعضهم يقدِّمه على «القرآن»، وهو أمر لا نقبله، ولا نميل إليه.