ربيع المغاربة وربيع المشارقة

قبيل نهاية القرن التاسع عشر أطلق الشاعر الإنكليزي روديارد كبلنج ( ١٨٦٥- ١٩٣٦) صرخته المشهورة  : "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا" تلك المقولة التي ذهبت مثلاً ، وأصبحت ثيمة غنائية مفضلة للحملات الاستعمارية التي كانت قد انطلقت في القرن الخامس عشر من الغرب لاحتلال الشرق ، وقد عبر الشاعر في هذه المقولة عن الفوارق الواقعة ما بين عالم الغرب وعالم الشرق من خلال رؤيته السياسية للعالم، إلا اننا بعيدا عن السياسة نجد في مقولة ذلك الشاعر كثيراً من الحقيقة، فلا جدال بوجود فوارق واسعة ما بين الشرق صاحب النزعة الروحية وبين الغرب الاستعماري صاحب النزعة المادية !!

وما إن قرأت سيرة هذا الشاعر حتى رأيتني أقف مندهشاً وأنا أقلب في ذاكرتي ما قرأته من علوم وفلسفة وآداب أنجزها علماؤنا فوجدت أن مقولة هذ الشاعر تصدق كذلك على عالمنا العربي، ما بين مشرقه ومغربه، فقد رأيت كما رأى شاعر الإنكليز أن شرقنا شرق وغربنا غرب، لكنهما على عكس نبوءة ذلك الإنكليزي الذي لوثته الروح الاستعمارية ، وجدت أن مشرقنا ومغربنا يلتقيان في الكثير، لكن مع تميز مغرب عالمنا العربي بالانفتاح مقابل شيء من الانغلاق  في المشرق، وكثيراً ما وقفت معجباً إلى حد الدهشة أمام تميز علمائنا المغاربة عن المشارقة في معظم العلوم والفنون والآداب والفلسفة، فإن كل مطّلع على الإنتاج المعرفي لهؤلاء وأولئك يجد فوارق نوعية بين ما قدمه مثلاً في المغرب - ومنه الأندلس - كل من الإمام ابن حزم ( ت ٤٥٦ هج ) والإمام الشاطبي (ت ٥٨٥هج ) والعلامة ابن خلدون ( ت ٨٠٨ هج) وابن رشد ( ت ٥٩٥ هج) مقارنة بما قدمه في المشرق الإمام أبو حامد الغزالي( ت ٥٠٥ هج) أو إمام الحرمين الجويني (ت ٤٧٨ هج) أو الإمام النووي (ت ٦٧٦ هج) وعلى سبيل المثال لا نجد بين المشارقة فقيهاً أصولياً يضارع الإمام الشاطبي، ولا نجد فيلسوفاً مشرقياً يضارع ابن رشد!!

ويزيدني دهشة استمرار هذه الفوارق بين مبدعينا المغاربة ومبدعينا المشارقة حتى اليوم، وعلى سبيل المثال لم نقرأ في المشرق مشروعاً فكرياً غنياً يضارع مشروع محمد عابد الجابري ( ١٩٣٦- ٢٠١٠) رحمه الله حول "العقل العربي"، ولم نشهد عملاً سياسياً - على المستوى الفكري والعملي - كما فعل راشد الغنوشي في تونس !!

هذا مع الإشارة إلى الانتقادات العديدة التي وجهت إلى معظم المشاريع المغاربية التي ذكرناها، فإن هذه المشاريع بالرغم من  كل هذه الانتقادات تظل مشاريعقيمة، تستحق التأمل لما تنطوي عليه من رؤى يستفاد منها، لاسيما اذا تذكرنا أنْ ما من عمل بشري يسلم من الخطأ ، أو القصور، أو الضعف، وهذا يذكرنا بمقولة الإمام مالك بن أنس رحمه الله : (كلٌّ يؤخذ من كلامه ويترك، إلا صاحب هذا القبر) يعني النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد قدم لنا " الربيع العربي" تأكيداً جديداً للفوارق القائمة ما بين الرؤية المغاربية والرؤية المشارقية ، تلك الفوارق التي جعلت تونس على سبيل المثال تجتاز ربيعها بسلام وتبدأ بناء الدولة الديمقراطية الحديثة  دونما صراع ولا دماء ولا دمار، بينما أدى الربيع العربي في المشرق إلى تدمير عدة بلدان (سوريا والعراق واليمن ... ) ومازال مسلسل التدمير يفعل فعله في المشرق، بينما ينشغل التونسيون ببناء دولتهم الحديثة، بل إن الربيع في مملكة المغرب  كان أسبق من الربيع العربي بما حبا الله المغاربة من فكر أكثر انفتاحاً، فبادروا إلى إصلاحات سياسيةعديدة تحولت فيه البلاد إلى مملكة دستورية، وفتحت الأبواب لمشاركة مختلف التيارات الفكرية في العمل السياسي ، بينما حصل العكس في المشرق حيث تحولت الجمهوريات إلى ملكيات وراثية دكتاتورية مغلقة، انتهت بالبلاد إلى الخراب والدمار!!

وعند تأمل هذه الفوارق ما بين مشرق عالمنا العربي ومغربه، قديماً وحديثاً، نجد السر في التبادل الثقافي الجاري بين المغاربة وأوروبا منذ الأندلس وإلى اليوم، وكذلك احتفال المغاربة باللغات الأوروبية أتاح لهم الانفتاح على الثقافات الأخرى، ما حفز الفكر المغاربي على "التفكير خارج الصندوق" على العكس من المشارقة الذين فرضوا على أنفسهم عزلة ثقافية طويلة ، تحت ذرائع شتى، مرة بحجة اعتزازهم باللغة العربية ، ومرة بحجة تحصين أنفسهم من الثقافات الوافدة العادية للإسلام ، بينما فتح المغاربة عقولهم وأبوابهم على الثقافات واللغات الأخرى، لاسيما منها الفرنسية، ما أتاح لهم الانفتاح على النتاج الفكري الثري الذي قدمه الأوروبيون للفكر الإنساني منذ الإغريق والرومان وحتى اليوم!!

فإذا صح هذا التفسير حول العوامل التي جعلت الإنتاج الفكري للمغاربة يتميز عن إنتاج المشارقة - وهو في اعتقادنا تفسير صحيح - فإننا ندرك  الحكمة في الأثر المنسوب الى عمربن الخطاب رضي الله عنه حيث قال : (اغتربوا تضووا) ومعناه : تزوجوا من الغرباء وزوجوهم، كي لا تضعف ذريتكم، وورد في أثر آخر ( غربوا النكاح ) وهو بمعناه، وبالرغم من ضعف سند هذه الآثار، إلا أن من الثابت إباحة الإسلام للمسلم زواج غير المسلمة من أهل الكتاب، ومثل هذا الزواج المختلط ينطوي على حكمة بالغة يدركها كل أقدم لى هذا النوع من الزواج، فزواج الرجل بامرأة تختلف ثقافتهاعن ثقافته أو تختلف لغتها عن لغته يحفز الرجل على تحصيل ثقافة زوجته ولغتها، وبهذا يضيف إلى مخزونه الثقافي زاداً آخر يغنيه ويزيده فعالية، وكذلك المرأة التي تقترن برجل يختلف عنها في الثقافة واللغة، وقد عرفت عدداً من الأصدقاء الذين فعلوها، فاغتنى مخزونهم الثقافي وتحسن أداؤهم الفكري، وقد رأيت واحداً ممن فعلوها فأصبح شخصاً آخر، وكذلك تحولت حال بعض قريباتي اللواتي فعلنها واقترنّ بغرباء ... فتأمل !!!

وسوم: العدد 674