أفريقيا بين إسرائيل والعرب
صُدِم العرب الغيورون على مصلحة أمتهم من زيارة نتنياهو الحالية إلى أفريقيا التي اعتبرها هو نفسه تاريخية ، وفتحا جديدا لأفريقيا . قال بالحرف وهو يهم بالصعود إلى الطائرة التي أقلته إلى القارة السمراء : " إنني أخرج الآن في زيارة تاريخية إلى أفريقيا " و " إننا نفتح أفريقيا أمام إسرائيل من جديد " ، ويلمح في العبارة الثانية إلى ما اعترى علاقة دولته بأفريقيا من فتور وقطع صلات دبلوماسية بعد أن نجحت فور استقلال أكثرية الدول الأفريقية في ستينات القرن الماضي ؛ في إقامة علاقات تجارية وزراعية وأمنية مع بعضها ، ثم ، ومناصرة من دول أفريقية معينة للقضايا العربية ، وبعد ثبوت قوة علاقة إسرائيل مع النظام العنصري الأبيض في جنوب أفريقيا ، تعرضت تلك العلاقات للفتور والقطع بعد حربي 1967 و1973 . أفريقيا لم تغب يوما عن المشروع الصهيوني ، وأبدى رواده الأوائل اهتماما خاصا بجنوب السودان ، وكانت أوغندا ومدغشقر وليبيا العربية من بين البلدان التي اقترحت لإقامة الوطن اليهودي . ودائما توالى نشر الدراسات العربية عن التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا ، ودائما شعر العرب بحق أن أفريقيا جزء من عالمهم ، وهل هناك أقوى تجسيدا لهذا الشعور من كون ثماني دول عربية أفريقية الجغرافيا ؟! بل يقال إن أفريقيا أخذت اسمها من اسم الفاتح العربي أفريقش ، والمعروف أن من أسماء تونس " أفريقيا " ، وبينها وبين العرب صلات عرقية في دولها غير العربية ، وصلات دينية وثقافية ولغوية ، وبينها وبينهم تشابه الحال في كون الطرفين جزءا من العالم الثالث أو العالم النامي ، وتشابه في تعرض الطرفين تاريخيا للظلم ونهب الثروات من جانب الاستعمار الأوروبي . في ضوء ما سبق ، يستصعب القوميون العرب أن تغلبهم إسرائيل في الساحة الأفريقية ؛ فلماذا كانت هذه الغلبة التي توجتها زيارة نتنياهو ، وبدا نجاحها منذرا بفتح آفاق إسرائيلية جديدة واسعة في أفريقيا ؟ بعض الأسباب :
أولا : العالم العربي نفسه خفت عداوته جوهرية أو مظهرية كثيرا لإسرائيل ؛ فلها علاقات دبلوماسية علنية مع مصر والأردن ، ولها علاقات تجارية وأمنية سرية أوشبه علنية مع دول عربية وإسلامية كثيرة . والفلسطينيون أصحاب المشكلة المباشرة مع إسرائيل يقيمون معها علاقات متنوعة في مركزها التنسيق الأمني درة علاقة إسرائيل مع سلطتهم ، ومن ثم ليس على أفريقيا أن تكون ملكية أكثر من الملك .
ثانيا : حالة العالم العربي بحروبه ودمائه وخلافاته داخليا وبينيا لا تحرك في نفوس الآخرين ، أفارقة وغير أفارقة ، سوى الازدراء والرغبة في الابتعاد عنهم ، وتبدو إسرائيل على نقيضهم دولة عصرية مزدهرة في كل شيء ، وتوفر نموذجا يغري بالتطلع إليه والاقتداء به .
ثالثا : يمكن القول بثقة إن إسرائيل ما كانت يوما أسخى من العرب على أفريقيا إلا أنها تحسن الإفادة مما تقدمه على قلته . معمر القذافي _ رحمه الله _ مال في منتصف مسيرته إلى أفريقيا نابذا العروبة والعرب ، ولنتذكر أن الرؤساء الأفارقة هم الذين ركب عدد منهم طائرة واحدة وزاروا ليبيا كاسرين حصارها . واقترح معمر _الذي يفكر دائما خارج الصندوق _ سك دينار أفريقي ذهبي ليكون عملة موحدة لكل أفريقيا ، وتفيد بعض التقارير أن مقترحه ذاك كان سبب التخلص منه ومن نظامه من جانب أميركا وأوروبا لما في ذلك الدينار من خطورة على الدولار . رابعا : تذهب بعض الآراء إلى أن العرب عنصريون في نظرتهم إلى الأفارقة السود اللون ، والمؤسف أن بعض الظواهر السطحية تغري بالاقتناع بصحة هذه الآراء ، ولكن التمحيص الشامل ينفي صحتها . في ليبيا نرى مساواة تامة بين مواطنيها العرب ومواطنيها ذوى الأصول الأفريقية السود اللون ، وأبو بكر يونس جابر أسود اللون واحتل منصب رئاسة أركان الجيش الليبي ، وشواهد ما يناقض هذه الآراء لا تعد . وإسرائيل التي تقبل عليها كثير من الدول الأفريقية ليست بريئة من العنصرية ضد السود ، وفي تراثها الديني أن الجنس الحامي ، وأكثره من السود ، مؤلف من أبناء حام بن نوح _ عليه السلام – الذي غضب عليه نوح ودعا عليه بسواد لونه ؛ لأنه ( حام ) ضحك حين تكشفت عورة نوح وهو نائم بعد ما أفرط في أكل العنب . ويشكو اليهود الفلاشا كثيرا من عنصرية المجتمع الإسرائيلي ضدهم ، وفي الثالث من الشهر الحالي تظاهر مئات منهم في تل أبيب بعد مشاهدتهم شريط فيديو يضرب فيه ضباط إسرائيليون جنديا من طائفتهم . إنما إسرائيل ماهرة في إخفاء مساوئها على كبرها وإبراز " محاسنها " على صغرها . حتى اليهود الروس ، وما أحد ينافسهم بياضا ، يشتكون من العنصرية في إسرائيل ، وترجموا شكواهم بهجرة عشرات الآلاف منهم إما عائدين إلى روسيا وبقية جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق أو إلى أميركا وكندا وأوروبا . إسرائيل بارعة في تحقيق مآربها ، وتتصرف في أفريقيا بإرادة واحدة وغايات واحدة بخلاف العرب المتعددي الإرادات والمتنافري الغايات . توقيت زيارة تننياهو ذاته انطوى على براعة كبيرة : تمت الزيارة في الذكرى الأربعين لعملية عنتيبي التي أنقذت فيها قوات كتيبة الأركان "سييرت متكال " رهائن طائرة إير فرانس التي اختطفتها مجموعة يسارية ألمانية _ فلسطينية ، وقاد يوني أخو نتنياهو العملية وقتل فيها ، ولم يفت نتنياهو أن يبدى التأثر لقتل أخيه ؛ أمام القادة الأفارقة الذين استقبلوه في أوغندا التي استهل بها زيارته ، ولم يفته أيضا أن يربط بين عملية إنقاذ الرهائن التي وصفها بأنها من ألمع العمليات في التاريخ ؛ وبين ما حدث لليهود من قتل في ألمانيا النازية لبيان أن اليهود استطاعوا أن يتجاوزوا كارثة قتلهم ويقيموا دولة لها جيش ينفذ مثل تلك العملية الناجحة بالمقياس العسكري . ومع كل براعة إسرائيل يظل كبر سوء أداء العرب وصراعاتهم وخلافاتهم هي ما يفتح الباب لفاعلية تلك البراعة . وعلى كل ، الباب مفتوح لمنافسة إسرائيل في أفريقيا وغير أفريقيا ، والمهم توفر الإرادة ، وإذا توفرت الإرادة الجادة توفرت الوسائل النافذة .
وسوم: العدد 675