السَّذاجَةُ
كنا صغارا ساذجين.. وكنا في ساعات المساء الأولى قد اعتدنا نحن وأبناء عمومتنا أن نتحلّق إمّا حول قربة المخيض الّتي تحرّكها يد متجعّدة موشومة بأعباء السّنين، أو حول الكانون، أو الطّابون، أو فرن الخبز ونشاهد جدّتي أو زوجة عمّي الكبير، تمخض اللّبن أو تخبز الفطائر، فنتسامر ونحن بين الفينة والفينة نساعدها في دفع أغصان الأشجار اليابسة نحو النّار فتلتهمها، وكنّا نسمع منهما قصصًا ذات أحداث غريبة عجيبة نصدّقها لسذاجتنا ولا تزال راسخة في ذهني حتّى اليوم، وكنّا نصدقها لأنّ المتحدّثة تقسم أغلظ الأيمان، بالله وبعينيها وبنظرها وبروح أبيها، أنّها شاهدت الأحداث بأمّ عينيها، ولأنّنا كنا نسمعها تتردّد في كلّ مجالس الأطفال، في الحارة أو في المدرسة، ولأنهم علّمونا أنّه لا يجوز الحلف إلا على الصّدق، والمؤمن لا يحلف كاذبًا، ولأنّ "الغول" أو "العمورة" –كما يسمّونها في قريتنا- أو "منبّهة اللّيل"، إن هي إلا شخصيات حقيقيّة ينبغي أن نأمن شرّها ونؤمن بوجودها فهي من الجنّ، والجِنّة مذكورة في القرآن. وكنّا إذا سمعنا القصّة نتسمّر في أماكننا ولا نجرؤ على التّحرك حتّى إلى المرحاض كي لا تصادفنا إحدى هذه الشّخصيات، ثمّ ننظر ونحن جالسون يمنة ويسرة ونخشى أن تداهمنا من الخلف فتؤذينا أشدّ الأذى، ثمّ نسمع أصوات نبضات قلوبنا ترتفع شيئًا فشيئًا حتّى إذا بلغت التّراقي، فيقوم أحدنا ويفرّ هاربًا من شدّة الخوف.
جلسنا ذات مرّة نعيش أحداث قصّة روتها لنا زوجة عمّي الكبير فقالت وهي تقسم إنّها لا تكذب في شيء من كلامها وإن أحداث القصّة حدثت معها شخصيًّا حين استيقظت ذات فجرٍ قبل أن يخرج العمّال إلى أعمالهم، والمزارعون إلى حقولهم، والرعاة إلى مراعيهم، وقبل أن يستيقظ زوجها، وهي تظنّ أنّ المؤذّن قد رفع أذان الفجر قبل ما يزيد عن ساعة وأنها تأخرت في تقطيع العجين وخبزه، فانطلقت نحو الطابون الواقع في أقصى صحن الدار قرب الجدار الذي يفصل الشارع عن حاكورة البيت، وبينما كانت تزوّده بروث البهائم اليابس والقش حتى تزداد حرارته فيصلح للخبز، وكان الطقس باردًا والعتمة الصامتة يعذّبها ضوء القمر في كل مكان، إذا بها تلمح شبحًا على هيئة امرأة طويلة القامة تلبس لباسًا أبيضَ، تسير الهوينا في الشارع قادمةً من بعيد متّجهة نحو الشرق، فما أن اقتربت منها حتّى نادتها قائلةً:
- من أنتِ يا خالة؟
لم تجب الخالة على سؤالها رغم تكرارها للسؤال ولم تعر لها أيّ اهتمام، وكانت عيناها تقدحان بالشّرر، فما كادت تبتعد عنها حتى انطلقت إلى البيت، ولم تعلم كيف حملتها رجلاها الهزيلتان على المشي، فأيقظت زوجها بعد أن مخضته مخضًا وسألتها عن الساعة وهي تتأتئ فأجابها:
- إنها الثالثة يا امرأة. ما الذي جرى لكِ؟
- يا ويلي! يا ويلي! لم يؤذن للفجر بعد. "العمورة" يا أبا محمود! إنها "العمورة"! لقد مرّت من أمام بيتنا. لو لم أهرب لالتهمتني.
حين سمعنا كلامها ارتعدت فرائصنا، وظلّلتنا غمامة الرعب، ولم ننبس ببنت شفة، وخصوصًا بعد أن حذّرتنا ألا نعود إلى البيت متأخرين كي لا تظهر لنا "العمورة" مثلما ظهرت لها في تلك الليلة "المشؤومة"، و"العمورة" يا سادة يا كرام، تحبّ لحم الأطفال لأنه طريّ، إذ تلتهمه بسرعة. لم نقوَ على الحركة، فانكمشنا، والتصقت أجسادنا بعضها ببعض خشية أن يظهر لنا هذا الشبح.
هذا كان دأب جدّاتنا، وهذا هو أدب الأطفال الذي تلقيناه في طفولتنا، وهذه هي القيم التي ترعرعنا عليها، والويل ثمّ الويل لطفل "شيطان" يقترب من مجلس الكبار، إذ تلاحقه الألسن وهي تقول: "انصرف يا شيطان!"... فيما كان أبناء عمومتنا من طرف إسحاق ينعمون بالتجول مع آبائهم وأمهاتهم في المتنزهات وعلى شواطيء البحر وفي الحدائق العامة. فما نوع الجيل الذي ينشأ على مثل هذه القيم؟ وما هي خصائصه؟
وسوم: العدد 676