طوني بلير وتقرير جون تشيلكوت
وأخيراً صدر تقرير لجنة التحقيق الرسمية بعد سبع سنوات من العمل في مختلف تفاصيل مشاركة بريطانيا في عهد طوني بلير، للمحافظين الجدد في أمريكا، في حرب العراق لعام 2003، هذه الحرب التي أسّست وأطلقت شرارة حروب الفوضى المتسلسلة التي ضربت وما زالت تضرب في عمق الوضع العربي. ولعلها تهيئ للتمدّد شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. طبعاً ليست هي العامل الوحيد في تسلسل هذه الفوضى. ولكنها كانت فاتحتها.
شكّل تقرير تشيلكوت اتهاماً صريحاً لطوني بلير يصل إلى حدود تجريمه، كما يطالب عدد من النواب البريطانيين. وذلك بسبب مسؤوليته عن إطلاق، أو المشاركة في، حرب لا مسوّغ لها. وذلك حين يعتبر التقرير أن الحرب على العراق فاقدة للأسس القانونية، أو وفقاً لتعبيره، أن ما تقدّم به طوني بلير (ومعه بوش الابن، بالضرورة) من أسس قانونية لتلك الحرب: "ليست مرضية".
فالتقرير يتهم طوني بلير بأنه بالغ بالحجج التي ساقها لإطلاق تلك الحرب. بل أن المعلومات التي اعتمد عليها حول أسلحة الدمار الشامل في العراق كانت مغلوطة. علماً أن الوصف الأنسب كان جزء منها مغلوطاً، وجزء مفبركاً مع سبق القصد المتعمّد والتصميم.
وقد أشار التقرير، أيضاً، إلى أن اللجوء إلى الحرب لم يكن محصلة لاستنفاذ كافة الحلول الأخرى، وإنما استبقها ولم يستنفذها. الأمر الذي يتهم طوني بلير، على العكس مما ادّعى في الدفاع عن نفسه، بأنه ذهب إلى الحرب "بنيّة خالصة". أي لم تكن نيته سيئة مدغولة. علماً أن الاتهام باستخدام معلومات مغلوطة دون التحقق منها، وبالقفز فوق كل الحلول التي تتوجب محاولتها قبل اللجوء إلى الحرب باعتبار "آخر الدواء الكي"، يكذبان ادّعاءه بأنه تصرف "بنيّة خالصة". وبالطبع لا هو ولا إدارة بوش الابن اتسّما بالنيّة الخالصة فهذه الحرب ضدّ العراق مدبّرة. وقد وصل الأمر إلى حدّ التلفيق والتزوير والتلاعب من أجل دعم الأسباب الموجبة لشنّها.
بل لعل الإسراع، بعد احتلال العراق، بحلّ الجيش وإعادة ترتيب معادلة التوازن بين مكوّنات الشعب العراقي، وحتى بلا إجراء إحصاء حقيقي يمكن الاعتماد عليه، يؤكدان بأن الأهداف الإستراتيجية للحرب، لم تكن مجرّد التخلص من صدام حسين. ولم تكن، كما يفترض، إحكام السيطرة الاستعمارية على العراق ونفطه وثرواته، وإنما كانت الأولوية لتصفية الجيش العراق وتحطيم الدولة العراقية. وهو ما استهدف إعادة تشكيل موازين القوى العام في مصلحة الكيان الصهيوني، وتفوّقه العسكري، وإلاّ كيف يفسّر "حلّ الجيش العراقي"، ودفع الداخل إلى الاحتراب الدموي بسبب نظرية المحاصصة بين الأكراد والشيعة والسنة في توزيع النسب داخل البرلمان ومؤسسات الدولة.
علماً أن التراث التاريخي للامبريالية الأمريكية كان الاعتماد على الانقلاب العسكري والمحافظة على الجيش مع إعادة تشكيل قياداته، بوضع عملائها وأتباعها على رأسه وفي بنيته، وليس حلّه شذر مذر ثم العمل على بنائه من الصفر. فهذا ما فعلته في أندونيسيا، مثلاً، حين أطاحت بسوكارنو ونظامه، بل وبكل انقلاب عسكري أو حرب أو "ثورات ربيعية".
فها هنا حالة انتقام بعقلية صهيونية، أو مصهينة، لجيش تجرّأ بإطلاق الصواريخ على الكيان الصهيوني وسعى لامتلاك القنبلة النووية وخصّص الأموال لشهداء الانتفاضة الفلسطينية. وليس حباً بالأكراد أو الشيعة أو بغضاً للسنة.
ومع ذلك كان هذان الإجراءان: حلّ الجيش وإعادة تركيب الدولة ضمن المحاصصة إستراتيجية غير محسوبة جيداً بالنسبة إلى مصلحة أمريكا وحتى الكيان الصهيوني. لأن الوقائع أثبتت دخول العراق في معادلة مقاومة مسلحة جعلت الاحتلال على صفيح ساخن سرعان ما أجبرته على أن يوّلّي الإدبار، كما أدخلته المعادلة السياسية التي أخرجت ميزان قوى لا سيطرة أمريكية- بريطانية عليه. بل أصبح أكثر انحيازاً لإيران التي كان من أهداف احتلال العراق التمهيد لمحاصرتها والسيطرة عليها بحرب وبغير الحرب. فالمعادلة السياسية أفلتت بدورها من يد أمريكا، فأسهمت، مع الصفيح الساخن، بفرض الانسحاب الأمريكي- البريطاني من العراق، وبخفيّ حنين حتى بالنسبة إلى السيطرة على النفط.. (أما عودة أمريكا الثانية إلى العراق فلها حديث آخر).
على أن النتائج المترتبة عن كل ما تقدّم: الاحتلال: إعادة بناء الدولة من الصفر، وإعادة معادلة ميزان القوى الداخلية ثم ما صحب ذلك من فساد لا مثيل له ابتداءً من فساد بريمر والمحافظين الجدد وانتهاءً بالقوى العراقية المتنفذة الجديدة، أدّت إلى دخول العراق في فوضى وانقسامات داخلية طائفية وكردية حادّة. مما أفسح الفرصة لدخول داعش على الخط وسيطرتها على الموصل وأجزاء عراقية ممتدة إلى الحدود السورية، بل داخل سورية أيضاً.
فكل ذلك يشكل إدانة وتجريماً أشدّ لطوني بلير حين تحسب، بصورة مباشرة وغير مباشرة، حالات الفوضى في العراق، وما حملته من انقسامات وحروب أهلية وطائفية ودماء وتهجير سكان. ومن ثم يجب أن يسقط خط دفاعه الأخير أمام لجنة تقرير تشيلكوت بأن الهدف كان إسقاط صدام من أجل عراق ديمقراطي (بالمقاييس الأمريكية- البريطانية). فما تحقق من نتائج بسبب تلك الحرب الإجرامية العدوانية، وما توّلد بعدها من فوضى يجب أن يذهب بطوني بلير وجورج دبليو بوش إلى المحاكم وليس فقط مجرد تقرير يتهم بلير بالتقصير وسوء التقدير وتحميله المسؤولية معنوياً دون إجراءات بمستوى الجريمة التي ارتكبت. وبالمناسبة من العيب أن يذرف طوني بلير الدموع على 179 جندياً بريطانياً قضوا في تلك الحرب متجاهلاً ضحاياها الذين يعدّون بمئات الألوف والملايين ناهيك عن الكوارث الإنسانية والسياسية المختلفة والمتداعية حتى يومنا هذا وإلى مستقبل ما زال في المجهول.
لقد أثبت طوني بلير بعد خروجه من السلطة أنه من قماشة منحطة أخلاقياً وفاسدة في تهافتها على المال وفي لعبها دور المستشار لقيادات مستبدة وفاسدة؛ مما لا يسمح الحديث عن استبداد صدام حسين أو الديمقراطية. إنه سُبّة حتى في عالم المتاجرين بالدماء والفاسدين والسماسرة والمنحطين.
وسوم: العدد 676