ماذا بقي من ثورة 23 يوليو لدى حكام مصر؟

قاد جمال عبد الناصر ثورة في مصر يوم 23 يوليو/تموز عام 1952، وتعتبر هذه الثورة مفصلية في تاريخ المنطقة العربية وأفريقياوالعالم الثالث، فماذا بقي منها لدى الرؤساء الذين جاءوا بعد عبد الناصر في الحكم؛ أنور السادات، وحسني مبارك، ومحمد مرسي، وعبد الفتاح السيسي؟ وحتى نستطيع أن نجيب على السؤال السابق، لابد لنا من التساؤل عن المبادئ التي قامت عليها ثورة 23 يوليو/تموز، والإنجازات التي حققتها.

أما عن المبادئ التي قامت عليها ثورة 23 يوليو/تموز، فقد قامت على نوعين من المبادئ، وهما: مبادئ الفكر القومي العربي من جهة، ومبادئ الفكر الاشتراكي الماركسي من جهة ثانية، فكيف تعامل عبد الناصر مع هذين النوعين من الأفكار؟ وماذا كان أثرهما في بناء مصر؟

لقد تبنى جمال عبد الناصر الفكر القومي العربي، وكان قد اطلع على كتابات ساطع الحصري في هذا المجال، ثم التقى به، وأهداه ساطع الحصري بعض كتبه، ومن المعلوم أن مصر كانت تقوم على الفكر القومي المصري الفرعوني بعد ثورة 1919 التي قادها سعد زغلول في مصر، والتي أعلنت أن مصر أمة فرعونية مستقلة، وليست جزءا من الأمة العربية أو الإسلامية، وقد غذى أقطاب السياسة والثقافة هذا المفهوم الفرعوني في أذهان الشعب المصري بعد الحرب العالمية الأولى، فأكد ذلك كل من أحمد لطفي السيد أستاذ الجيل، وطه حسين عميد الأدب العربي، وعباس محمود العقاد جبار الفكر، ومحمد حسين هيكل، وتوفيق الحكيم.. إلخ.

وقد ازدهر العلم بالتاريخ الفرعوني والسلالات الفرعونية والحضارة الفرعونية بعد فك طلاسم اللغة الهيروغليفية عند اكتشاف حجر رشيد، وعند فك طلاسم الكتابات التي كانت تملأ جدران المعابد والآثار المصرية في كل أنحاء القطر المصري، وقد أدى ذلك كله إلى اكتشاف جثث الفراعنة المحنطة في الأهرامات والقبور وغيرها.

لقد أدت كل تلك الجهود الثقافية والعلمية والفكرية والتاريخية إلى تكوين تيار قوي في مصر يعتبر نفسه امتدادا للحضارة الفرعونية، لذلك عندما جاء عبد الناصر واعتمد الفكر القومي العربي في بناء الدولة المصرية، واعتبر الشعب المصري جزءا من الأمة العربية، كانت نقلة نوعية صادمة لجزء من الشعب المصري ونخبته التي بنت ثقافتها وأفكارها على أنها ليست جزءا من الأمة العربية، ولكن نقلة عبد الناصر واعتباره مصر جزءا من الأمة العربية كانت خطوة في الاتجاه الصحيح من جهة، ولاقت استحسانا لدى جزء كبير من الشعب المصري الممتلئ بالثقافة العربية والإسلامية، والذي كان يعتبر نفسه غير منسجم مع مقولة الانتماء للحضارة الفرعونية.

أما مبادئ الفكر الاشتراكي فقد تبناها عبد الناصر في الستينات بعد أن أقام علاقة مع الاتحاد السوفيتي، وقد أمم كثيرا من البنوك والمصانع والشركات، وكان قد أقام نظام الإصلاح الزراعي قبل ذلك في الخمسينات، ووزع كثيرا من أراضي الإقطاعيين على صغار الفلاحين، وكان قصده من تلك الإجراءات تقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء في الشعب المصري، وكان قصده أيضا إيجاد قطاع صناعي واسع، ينتج صناعات مختلفة تغطي حاجات الشعب المصري ومنها الحاجات العسكرية.

وقد ضرب عبد الناصر على بعض الأوتار الحساسة عند جماهير أمتنا، فطرح شعارات تحرير فلسطين، وإقامة الوحدة بين الأقطار العربية، وطرد الاستعمار من المنطقة وبالأخص الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي، وبالفعل نجح في تحقيق بعض ما نادى به، فأقام الوحدة مع سوريا عام 1958، وساعد حركات التحرر في الجزائر وتونس والمغرب وعدن وبعض دول أفريقيا وآسيا.. وكان له دور كبير في نيل الجزائر استقلالها عام 1962 برئاسة أحمد بن بلة.

ولكن الفشل الرئيسي كان بالنسبة لجمال عبد الناصر في مجال القضية الفلسطينية، فكانت نكسة عام 1967 هي الواقعة التي قسمت ظهر النظام المصري، فقد انتصرت إسرائيل في حرب يونيو/حزيران عام 1967، ودمرت الطيران المصري في جميع أنحاء مصر صبيحة الخامس من يونيو/حزيران عام 1967، واحتلت في النهاية كل سيناء من مصر، كما احتلت الضفة الغربية من الأردن، واحتلت الجولانمن سوريا.

والآن؛ ماذا بقي من ثورة 23 يوليو/تموز بعد مجيء السادات إلى الحكم عام 1970 من ناحية المبادئ والإنجازات؟

لقد تنكر السادات للمبدأين اللذين أقام عليهما جمال عبد الناصر ثورة 23 يوليو/تموز، وهما الفكر القومي العربي، والاشتراكية، فأعاد مصر إلى عزلتها الإقليمية، وأحيا النزعة الفرعونية عند المصريين، كما نقل مصر من النظام الاشتراكي إلى النظام الاستهلاكي الرأسمالي الأميركي، كما نقل مصر من القتال مع إسرائيل إلى عقد السلام معها واعتبار حرب 1973 آخر الحروب معها، كما نقل مصر من معسكر التحرير والعالم الثالث إلى عالم الولاء للمعسكر الأميركي.

باختصار لقد محا السادات كل منظومة المبادئ والإنجازات التي أقام عبد الناصر مصر عليها، والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة: لماذا نجح السادات في محو كل المبادئ والقيم والإنجازات التي أقام عبد الناصر مصر عليها بهذه السهولة؟

السبب في ذلك إلى أن المبادئ التي جاء بها عبد الناصر في مجال الفكر القومي العربي أو المجال الاشتراكي لم تكن متصالحة مع الدين بل متحاربة معه، فهو قد اعتمد القومية العربية التي طرحها الحصري، والتي كانت ذات محتوى علماني، وكانت تعتبر أن الأمة العربية تقوم على عنصري اللغة والتاريخ، وتعتبر أن الدين ليس داخلا في بناء الأمة، وكذلك تبنى عبد الناصر الطرح الاشتراكي الماركسي الذي يعتبر الدين معاديا للتقدم، وأن رجال الدين رجعيون، ويدعون الشعب والفقراء إلى الاستكانة للرأسماليين والأغنياء. 

وقد جاء هذا الموقف المعادي للدين من قبل جمال عبد الناصر بسبب نقله مفاهيم القومية والاشتراكية نقلا حرفيا من المفاهيم الغربية التي لا تتوافق مع معطيات حضارتنا، وذلك ما يعلل سرعة قضاء السادات على نقل مصر من وضع إلى آخر مناقض له، ويوضح كيفية قضاء السادات على الإنجازات التي بناها جمال عبد الناصر لمصر.

فماذا بقي من ثورة 23 يوليو/تموز لدى حسني مبارك؟

لقد عمق حسني مبارك التحولات التي أقرها السادات من ناحية القطرية المصرية، ومن ناحية الانعزال المصري عن المحيط العربي، وحول السلام الذي أقامه السادات مع إسرائيل عام 1977 إلى استسلام كامل لإسرائيل، كما جعل مصر تابعة لأميركا، دائرة في فلك السياسة الأميركية، منفذة لمخططاتها في المنطقة.

أما في مجال الاقتصاد، فقد عمق حسني مبارك النهج الرأسمالي الذي بدأه السادات في مصر من خلال إنهاء دور القطاع العام وبيعه للقطاع الخاص، ومن خلال إعطاء دور كبير للجيش وجنرالاته في إدارة المؤسسات التجارية، وإدارة الاقتصاد المصري.

فماذا بقي من ثورة 23 يوليو/تموز لدى الرئيس محمد مرسي؟ 

لقد حاول محمد مرسي إحداث تغيير جذري في وضع مصر السياسي والاقتصادي في الفترة التي مارس فيها الحكم، وهي لا تعدو السنة، ومع أنه جاء من بيئة معادية لثورة 23 يوليو/تموز، وهي بيئة الإخوان المسلمين، إلا أنه انسجم معها في إعادة مصر إلى محيطها العربي والإسلامي من جهة، وفي الوقوف في وجه إسرائيل كما حدث معه عندما وقف إلى جانب غزة في حربها مع إسرائيل عام 2012 من جهة ثانية.

فماذا بقي من ثورة 23 يوليو/تموز لدى عبد الفتاح السيسي؟

لقد حاول السيسي أن يزيد شعبيته بأن يربط ويؤسس لبعض الشبه بين "ثورته" وثورة عبد الناصر، فكلاهما أقام ثورته في شهر يوليو/تموز وهو شهر الثورات، وكلاهما عسكري جاء من المؤسسة العسكرية التي تحمي مصر، وكلاهما حاول أن يبني اقتصادا مرتبطا بالقناة، فعبد الناصر أمم القناة من أجل زيادة الدخل المصري، وبنى السد العالي على النيل من أجل زيادة حصة مصر من مياه النيل ومن أجل توفير الكهرباء، وكذلك فعل عبد الفتاح السيسي فكان مشروعه الأول توسعة قناة السويس من أجل زيادة حركة السفن في القناة وإنعاش الدخل القومي لمصر.

لكن ممارسات السيسي على أرض الواقع تخالف الأهداف والوقائع التي توصلت إليها ثورة 23 يوليو/تموز، ومن ذلك مياه النيل، فقد اعتبرت ثورة 23 يوليو/تموز أن تدفق مياه النيل وعدم النيل من حصتها أحد دعائم الأمن القومي لمصر، لكن بناء أثيوبيا سد النهضة، تحدى هذه الدعامة وكسرها، وهدد أمن مصر القومي، مما اضطر السيسي إلى الاستعانة بإسرائيل من أجل أن يعالج هذا التهديد، فأرسل وزير خارجيته سامح شكري من أجل استجداء إسرائيل وطلب وساطتها عند أثيوبيا لعدم التجاوز على مصر في هذا المجال، وهذا مثال بسيط على التشابه والتناقض بين "الثورتين"، تشابه في الشكل وليس في المضمون.

الخلاصة التي يمكن أن ننتهي إليها هو أنه لم يبق شيء من مبادئ ثورة 23 يوليو/تموز ولا من إنجازاتها، فقد ألغى السادات التوجه القومي العربي والتوجه الاشتراكي اللذين أقامهما جمال عبد الناصر في كيان مصر، واللافت للنظر هو نجاح السادات السريع في هاتين الخطوتين، وقد عللنا ذلك بأنهما كانتا مبنيتين على العداء للدين، ثم جاء الرؤساء بعد السادات فعمقوا ما بناه السادات من تأكيد انعزالية مصر، ومن تأكيد التوجه الرأسمالي والاستسلام لإسرائيل، والارتباط الكامل بالسياسة الأميركية.

وسوم: العدد 679