رسالة مفتوحة إلى من يهمهم الأمر في دمشق

د. محمد أحمد الزعبي

النظام السوري إلى أين؟

د. محمد أحمد الزعبي

كنا نود أن نتجنب الدخول في الطرق الإلتفافية الميثودولوجية ( المنهجية ) وصولا إلى أهداف هذه الرسالة ، بيد أننا لم نجد مناصا من التوقف عند بعض القضايا الأساسية التي يمكن أن تساهم في إيضاح هذه  الأهداف  وفي هذا الظرف بالذات .

1.إشكالية الموضوعية عند الباحث :

تعتبر مسألة الموضوعية من أبرز المشكلات التي تواجه الباحث في محاولته فهم وتحليل الظواهر الاجتماعية ،

ولا سيما عندما يتعلق الأمر بظواهر واحداث لم  تكتمل فصولها بعد ، كما هي حال الموضوع الذي نحن بصدده الآن.

ويتمثل البعد الإشكالي هنا في عملية التلازم والتداخل بين مقولتي الموضوعية والأيديولوجيا من جهة ، وبين مقولتي الوعي الفردي والوعي الاجتماعي من جهة أخرى  حيث جعل مثل هذا التلازم والتداخل من الصعوبة بمكان أن يستطيع الباحث الأمين  الجمع بين متطلبات الموضوعية في البحث والتحليل ، وبين كونه نفسه جزءاً من المشهد الاجتماعي الذي يقوم ببحثه

وتحليله . إن المخرج المتاح من هذا المأزق المنهجي هو بالإضافة إ لى ضرورة  الإلتزام الصارم  بقواعد المنهج العلمي المعروفة في البحوث الجادّة ، تفعيل البعد الأخلاقي والوجداني لدى  الباحث إلى مدياته القصوى ، بما يجعله على مسافة قريبة جداً من الحقيقة الموضوعية ، وهذا ماسيحاوله الكاتب  في هذه الرسالة .

إن معايشة الكاتب لأزمة الحزب والسلطة في سوريا معايشة ميدانية ، سواء من خلال انتمائه التنظيمي للحزب الذي بدأ  عام 1947 واستمرحتى عام 1967 ، او من خلال المسؤوليات السياسية والحزبية التي شغلها في الفترة بين 1963 و1967 ،

أو من خلال ارتباطه الأيديولوجي بفكر الحزب الذي مايزال مستمرا حتى هذه اللحظة ، نقول إن هذه المعا يشة الميدانية تسمح للكاتب أن يزعم أنّ ماسيورده في هذه الرسالة  من آراء ومن تحليلات هي ليست من باب الرجم بالغيب أ و إلقاء الأحكام على عواهنها ، وإنما هي آراء وتحليلات تمتلك  ـ على مانعتقد ـ قدراً كبيراً من المصداقية .

ومن جهة ثانية فإن الكاتب يزعم ، أن انتماءه الأيديولوجي إلى التيار اليساري الديمقراطي في الحزب ، قد عصمه إلى حد

بعيد من الوقوع في فخ كل من التطرف القومي و التطرف اليساري ،ذلك التطرف الذي طبع الحياة الداخلية للحزب بعد قيام ثورة ( 8 / 2 / 63 )في بغداد ، وثورة ( 8 / 3 / 63 ) في دمشق ، والذي أدّى لاحقا ألى :

ــ  إثارة النعرات القومية والطائفية داخل الحزب وفي المجتمع في كل من سورية والعراق

ــ  شق الحزب إلى حزبين، واحد غلب عليه الطابع القومي( العراق) ،والآخر غلب عليه الطابع القطري والطائفي (سورية)

ــ  خلق حالة من الطلاق المصطنع بين العروبة والإسلام من جهة ، وبين الديمقراطية والإشتراكية من جهة أخرى .

ــ  هيمنة الجناح العسكري في الحزب على السلطة ، وتحويل الحزب إلى مؤسسة أمنية للحفاظ على النظام القائم

وبما أن التطرف ( اليميني منه واليساري ) عادة مايؤدي إلى العمى الأيديولوجي الذي يحول  دون قراءة الواقع الإجتماعي

 الملموس قراءة علمية  صحيحة ويحول بالتالي دون الوصول إلى الحقيقة،حتى في صورتها النسبية  فإن استبدال الاعتدال بالتطرف   يغدو هو الطريق الأقصر والأسلم لتطبيق القانون السوسيولوجي الخلدوني الذي ينص على أن " القانون في

تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة ، هو أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران ، ونميّز مايلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه ..." ( مقدمة ابن خلدون ، ط2 ، بيروت 1961 ،ص61/62 ) . إن الكاتب لايستطيع أن يزعم أن مقالة أو دراسة محدودة يمكن تغطي متطلبات مثل هذا القانون الإجتماعي ،  ولكنه سوف يحاول فيما

سيورده من الآراء والوقائع لاحقاً أن يلتزم جادةالاعتدال والموضوعية والحياد وان يدع الظواهر تتحدث عن نفسهاماأمكن.

2. في جوهر أزمة النظام الحالي في سورية:

2. 1  البعث والعقلية النخبوية :

لقد عكس حزب البعث بتكوينه الإجتماعي والأيديولوجي منذ نشاته في أربعينات القرن الماضي المصالح الإقتصادية

 والسياسية والثقافية لمجموعة من الفئات الإجتماعية المتوسطة التي كانت جذورها  الطبقية تمتد في تربة المستضعفين  والمضطهدين ، بينما كانت فروعها ترتفع لتلامس قصور الأغنياء والمترفين، الأمر الذي سمح لفئة المنظّرين   في الحزب

أن تنظر إلى نفسها وبالتالي إلى الحزب باعتباره الممثل الشرعي والوحيد للأمة العربية ، وأن كل ماعداه من الأيديولوجيات

والأحزاب ، لايملكون ذات الشرعية التي يمتلكها البعث ! . وبات علينا أن ننتظر حتى عام 1963 حين وضع الحزب قدمه

في كل من بغداد ودمشق على أولى درجات سلم السلطة ، لنرى بالملموس مدى التطابق بين النظرية والممارسة .

 ومن جهة ثانية ، فإن الطابع القومي ـ العلماني لحزب البعث العربي الذي تأ سس عام 1947 على يد ميشيل عفلق وصلاح

الدين البيطار، قد انعكس على التكوين الاجتماعي للحزب ،  وبالتالي على مجمل مسيرته الداخلية اللاحقة ، بحيث أصبحت صورته العامة ـ أي الحزب ـ  تشير بصورة أسا سية إلى :

ـ غلبة الطابع الثقافي عامة والطلابي خاصة على التكوين الأولي للحزب ، والذي تم تطعيمه عام 1953 بالعنصر الفلاحي

  الريفي ، ولا سيما في محافظة حماة ، إثر عملية الإندماج بين البعث العربي(ميشيل عفلق ) والعربي الإ شتراكي ( أكرم

  الحوراني ) الذي كان يغلب عليه الطابع الريفي والجهوي  .

ـ غياب حالة التوازن والتناظر بين تكوين المجتمع في سورية وتكوين الحزب ، من حيث غلبة الطابع الأقلياتي من جهة

   ( لايشير المفهوم هنا إلى أية صيغة قيمية ) والريفي من جهة أخرى ، في التكوين الاجتماعي للحزب ، الأمر الذي انعكس

   في ضمور التأ ييد الشعبي  والتواجد التنظيمي للحزب في المدن الرئيسية( دمشق وحلب خاصة ) وأيضاً  بين الجمهور

  السنّي في كل من المدينة والريف على حد سواء .

ـ الفصم التعسفي للعلاقة التاريخية التي تربط بين القومية العربية والدين الإسلامي ، وذلك تحت تأ ثيرالنقل الميكانيكي لفكر

  عصر التنوير الأوروبي الذي تتوج بقيام الثورة الفرنسية  التي تحولت شعاراتها في الحرية والإخاء والمسا واة ،وفي

  فصل  الدين عن الدولة إلى شعارات عالمية عامة  تأثر بها مؤسسا الحزب  ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطارحين

  تواجدهما في فرنسا للدراسة ، وأدخلاها إلى فكر الحزب ، ولا سيما مقولة العلمانية .

لقد ترتب على هذا الخلل البنيوي في التركيب الاجتماعي والأيديولوجي للبعث ، أن عمدت بعض العناصر القيادية في

الحزب ن إلى إخفاء هذا الخلل بالهرب نحو الأمام ، وتبني جملة من الشعارات الماركسية التي أخذتها من بعض الأدبيات

اللينينية والستالينية ، وأدخلتها في أدبيات البعث دونما تمحيص أو موائمة . من هذه الشعارات : الصراع الطبقي ،ديكتاتورية

البروليتاريا ، المركزية الديمقراطية ،الحزب القائد / الواحد  ...الخ والتي كانت تصب كلها في  طاحونة العقلية النخبوية الإقصائية ، وهو ماأساء إلى كل من فكر  البعث  والماركسية معاً .

   2. 2  حكاية اليمين واليسار في الحزب :

بعيدا عن الجانب التاريخي المعروف في هذه المسألة ، فإن مالا يرقى إليه الشك ـ من وجهة نظرنا على الأقل ـ أ ن الملكية

الخاصة لوسائل الإنتاج  ، ولا سيما الكبيرة ، بفصلها الإنسان عن منتوج عمله ، قد أوجدت الأساس لانقسام المجتمعات إلى

قسمين أساسيين : الذين يملكون هذه الوسائل ( وهم عادة قلّة) والذين لايملكون هذه الوسائل ( وهم عادة الأغلبية الساحقة)، وبالتالي ، المستثمرين والمستثمرين ، المستغلين والمستغلين ، وتنضوي تحت لواء هذا القانون الإجتماعي ـ الإقتصادي العام

كافة التفاصيل والخصوصيات، بما في ذلك مسالة اليمين واليسار، من حيث أن مفهوم اليمين غالبا مايشير إلى الفئات والطبقات الإجتماعية( المجموعات ) المهيمنة اقتصاديا وسياسيا ، والتي عادة ماترتبط مصالحها بالحفاظ على الوضع القائم  ومن هنا جاء طابعها المحافظ ( اليميني) ؛ بينما يشير مفهوم اليسار إلى فئات/ مجموعات  المستضعفين من المضطهدين 

والمستغلين والتي غالبا ماترتبط مصالحها بضرورة تغيير الوضع القائم ، بوضع آخر ، يعيد توزيع السلطة والثروة في المجتمع بصورةعادلة ، ومن هنا جاء طابعها الثوري ( اليساري) .

إن الكلام عن مجموعة اجتماعية ، يشير نظريا وعمليا إلى عدم وجود سور صيني بين هذه المجموعات أو بين شرائحها

المختلفة ، وبالتالي بين اليمين واليسار ، سواء على مستوى الواقع أو على مستوى الوعي .

واستنادا إلى العلاقة الجدلية ـ التي لايمارى فيها  ـ بين الواقع الإجتماعي والوعي الاجتماعي،فقد انعكس الانقسام الإجتماعي

السابق على المنطلقات النظرية للمثقفين  من كلا الاتجاهين في صورة أيديولوجيات حزبية يمينية و/ أو يسارية و/ أو أيضا

في منزلة بين المنزلتين إن بقاء الأبواب والنوافذ مفتوحة بين المجموعتين الاجتماعيتين العليا والد نيا سمح بنشوء الجماعة البينية ( الثالثة)التي تجمع بين الخواص الاجتماعية والأيديولوجية لكل من اليمين واليسار ، الأمر الذي أعطاها إمكانية

التحرك البندولي بين الطرفين ، بل وجعلها  مقبولة منهما معا ، وجعل بالتالي من الحديث عن الصراع بين اليمين واليسا ر

داخل هذه المجموعة مدعاة للتسا ؤل والشك، وهو ماينطبق على حزب البعث في كل من سورية والعراق من حيث الزعم

بأن الصراع  الداخلي الذي شهده الحزب في ستينات القرن الماضي كان صراعا بين الجناح اليميني والجناح اليساري في الحزب !! . إننا لاننكر وجود عناصر بل وتيارات بعضها أقرب إلى اليسار وبعضها أقرب إلى اليمين كانت وما تزال داخل الحزب ، ولكن ماننكره هو أن الصراع الذي شهده الحزب في القطرين السوري والعراقي وبينهما ( بما في ذلك مابات معروفا بحركة 23 شباط / فبراير 1966 ) إنما يدخل في هذا الباب . واقع الحال أن القيادات العسكرية والمدنية المسؤولة

  عن شق الحزب بين القطرين وداخلهما، قد استغلت كون أن الأولوية كانت عند بعض الحزبيين للإشتراكية على الوحدة بينما كانت عند بعضهم الآخر للوحدة على الإشتراكية، لتوظفها في خدمة مشاريعهاالفئويةالمشبوهة  التي لاعلاقة لها

لابالوحدة ولا بالاشتراكية ، بل  ولا حتى بفكر الحزب من حيث الأصل ، بغض النظر عن إشكالية اليمين واليسار فيه .

2.  3 مقولة  الجيش العقائدي :

بعيداً عن الإشكالات الفلسفية المتعلقة بطبيعة ووظيفة الدولة ، ولا سيما نظرية العقد الاجتماعي عند كل من توماس هوبز

(1588 ـ 1679 ) وجان جاك روسو (1712 ت 1778 ) ؛ وأيضا بعيداً عن التعقيدات الفقهية المتعلقة بالعلاقة بين

 السلطات الثلاث إن لم نقل الأربع داخل الدول ولا سيما الديمقراطية منها، فإن مابات متفقا عليه الآن  بصورة أساسية، هو :

ـ ارتباط مفهوم الدولة الحديثة بوجود سلطة تنفيذية ( حكومة) قادرة على إلزام كافة المواطنين على الإنصياع للتشريعات

  والأحكام الصادرة عن السلطتين التشريعية والقضائية ، وأيضا حماية الوطن من أي اعتداء خارجي يستهدف أبناءه أو

  أرضه أو مجاله الجوي والبحري .

ـ ارتباط قدرة الحكومة على الإلزام المذكور بامتلاكها وحدها سلطة قانونية ومادية تتمثل بوجود  دستور وقانون عقوبات

   وقوات مسلحة تسهر على تنفيذ كل من الدستور وا لقانون .

ـ انقسام القوا ت المسلحة المعنية إلى قسمين أساسيين متغايرين وظيفياً ومتكاملين بنيوياً . الأولى  هي قوى الأمن الداخلي

  والثانية هي الجيش الوطني

إن مايرغب الكاتب الإشارة إليه في هذه النقطة ، هو أن مفهوم الجيش الوطني إنما يرتبط من الناحيتين البنيوية والوظيفية

  بمفهوم الوطن والمواطن اي أن بنيته يلزم أن تعكس و تنعكس عن البنية الإجتماعية للوطن المعني وان ترتبط أساسا

بالدفاع عن الوطن ضد أي عدوان أجنبي / خارجي محتمل . وإذا ماحاد الجيش عن هذه المهمة ، وتحول إلى قوة أمن  داخلي  تحت ذريعة الحفاظ على النظام والدفاع عن الثورة ! ـ كما حصل ويحصل الان في أكثر من قطر عربي ـ فإنه يكون قد تحوّل إلى جيش عقائدي  ( بالمعنى السلبي  للمفهوم  ) ذلك أن مفهوم الجيش العقائدي غالبا مايتماهى مع أيديولوجيا عصبوية تعكس آراء ومواقف ومصالح جزء أو أجزاء محددة وقد تكون محدودة من المجموع الكلي للشعب

إن أي نظام سياسي غير ديمقراطي ، هو بالضرورة نظام أقلّية ما ( د ينية أو طائفية أو قومية أو قبلية أو حزبية ...الخ )  وأن الجيش  ! هو وسيلتها للوصول والاستمرار في السلطة ، وأن إضافة صفة العقائدي إلى كلمة الجيش ، لايعدو أن

يكون ورقة التوت التي يحاول النظام المعني أن يستربها  ديكتاتوريته ، والذي ( الجيش العقائدي ) يتداخل ويتكامل

دوره السياسي في احتكار السلطة مع ورقة التوت الأخرى التي تمثل الغطاء الأيديولوجي الديني أو الحزبي الذي يتخفى

ثحته هذا النظام . إننا لانجد أنفسنا بحاجة إلى الإشارة إلى تلك الحقيقة المرة التي يعرفها الجميع وهي أن عددا من هذه

الجيوش العقائدية قد ورط ، ليس فقط القطر الذي ينتمي إليه ، وإنما الأمة العربية كلها، في سلسلة من النكسات والهزائم العسكرية المذ لة التي مازلنا وربما سنبقى إلى أمد بعيد نحصد عقابيلها المؤسفة والمؤلمة .

إن تفرقتنا بين مفهوم الجيش الوطني والجيش العقائدي لايعني بحال أن الجيش الوطني هو جيش بلا عقيدة . ذلك أن كلمة

وطني بحد ذاتها مشبعة بالمضمون العقائدي ، ولكن المضمون الذي يعكس وينعكس عن العقيدة الكلية للأمة والوطن بكل أطيافهما ، وليس عقيدة فئة محددة ومحدودة منهما .

ومن جهة أخرى فإنه عندما يكون التمثيل الشعبي للنظام هزيلاً ، فهو لايستطيع أن يضع كامل ثقته لافي الجيش العقائدي ولا في الحزب القائد ولا في المنظمات الشعبية ، ذلك أن النظام ، وبحكم تمثيله الشعبي الأقلياتي ، لا يستطيع أن يمسك بكافة 

المفاصل الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تشكل البنية العامة والخاصة  لهذه المؤسسات ، وبالتالي فإن انحسار سيطرته على المفاصل الحساسة فيها فقط ، يجعله يتوجس خوفا منها،الأمر الذي يدفعه إلى إحاطة نفسه بمجموعة من الأسوار الأمنية التي تتداخل  في بنيتها صلة الرحم  مع العصا والجزرة ، وتتداخل في وظيفتها مراقبة المجتمع مع مراقبة بعضها بعضا ، ويتداخل في وضعها القانوني ، الدستور والقوانين النافذة مع حالة الطوارئ  التي تمثل الفيتو الذي يمكن أن يلقف كل مافي

هذا الدستور وهذه القوانين من إيجابيات ، ولا سيما أن السيطرة على الجيش والحزب تضمن للنظام السيطرة على السلطتين

التشريعية والقضائية ، ناهيك عن المنظملت الشعبية ، حيث تتحول جميعها إلى مجرد واجهات للنظام المعني ليس أكثر .

إنه لايمكن لبعض أنظمة الجيش العقائدي أن تنسى ، كيف أن قطعاتها العسكرية التي زج  بها عنوة في حفر الباطن عام

1991 لتقاتل جنبا إلى جنب مع الجيش الأمريكي ( وربما الإسرائيلي أيضا ) إخوة لهم في العراق الشقيق قد  شرعت تطلق

النار في الهواء للتعبير عن فرحتها بمرور الصواريخ العراقية المتجهة الى تل أبيب .  كما أنه لايمكن لأحد أن ينسى ، أن بعض رموز الجيش العقائدي  في العراق قد ساهمت بدورها  في أسقاط بغداد بيد القوات الأنجلوـ أمريكية الغازية ،بالشكل

الذي سقطت فيه ، في التاسع من نيسان / أفريل عام 2003 . إن الجيش العقائدي يمثل بالنسبة للأنظمة غير الوطنية وغير

الديمقراطية ، سيفا ذو حدّين ، إنه لها وعليها في آن واحد .

2. 4 إشكالية الحرية والديمقراطية في حزب البعث :

في خطوطها العامة والعريضة ، تتجسد أيديولوجية البعث ، في وثيقتين أساسيتين ، الأولى هي ماعرف با لدستور والذي أقر في المؤتمر التأسيسي للحزب عام 1947 ، والثانية هي مقررات المؤتمر القومي السادس لعام 1964 والتي أطلق عليها

بعض المنطلقات النظرية  والتي اعتبرت آنذاك انقلابا يساريا داخل الحزب ضد الفكر العفلقي اليميني ! والتي شكلت باكورة

الصراع  الأيديوـ سياسي ، الذي انتهى بشق الحزب على يد حركة 23 شباط 1966 ( صلاح جديد) ومكملتها  الحركة

 التصحيحية ( حافظ الأسد)عام 1970 واللتان قادهما عملياً الجناح العسكري المعروف في الحزب .

ومن الرجوع إلى النصوص المتعلقة بمسألة الديموقراطية في هتين الوثيقتين النظريتين الأساسيتين نقرأ مايلي :

ـ حزب البعث العربي شعبي يؤمن بأن السيادة هي ملك للشعب ( المادة 5 من الدستور)

ـ حزب البعث العربي إنقلابي ، يؤمن بأن أهدافه في بعث القومية العربية وبناء الإشتراكية ، لايمكن أن يتم إلاّ عن طريق

  الإنقلاب والنضال ،وأن التطور البطيء والاكتفاء بالإصلاح الجزئي السطحي يهددان هذه الأهداف بالفشل والضياع ( المادة6 من الدستور )

  ـ إن أيديولوجية حزبنا ترفض ، بلا تردد وبحزم الآراء الإصلاحية الإنتهازية التي تروج لتدرج بطيء طويل للتغيير

  الإجتماعي ... إن الأيديولوجية الثورية هي الحل الطبيعي والوحيد لمشاكل بلد متخلف ( بعض المنطلقات النظرية ص22)

ـ  وفي الظروف الراهنة ... يجب نقل السلطة من الطبقات البرجوازية إلى الطبقات الكادحة، ولهذا يجب تخطي" البرلمانية"

  باعتبارها أحد أشكال سيطرة تلك الطبقات على الجماهير الشعبية ( ب م ن  ص54)

ـ  إن تخطي " البرلمانية " لايعني الإنتقال إلى أشكال للحكم ديكتاتورية أو فردية بيروقراطية أو عسكرية ، بل يعني زوال

   الإطار البرجوازي ـ شبه الإقطاعي للديموقراطية والانتقال إلى ديمقراطية أوسع وأعمق وأمتن وأسلم هي الديمقراطية

   الشعبية  ( ب م ن  ص55 )   

ـ إما أن نعيش نحن أو تعيش الرجعية ، وكل  تسوية وسط أكذوبة أو خدعة نتيجتها إنقاذ الرجعية ( ب م ن  ص56)

ـ إن مبدا " الحزب القائد " أصبح أمرا تمليه الضرورة المرحلية لوجود سلطة مركزية ثابتة تقود عملية البناء الإشتراكي...

  ( ب م ن  ص61)

ـ .. الممارسة العملية للديمقراطية تقتضي نبذ مبدأ إبعاد الجيش عن السياسة ... بل إن فكرة الجيش المحترف هي بالأساس

مبدأ الرجعية والبرجوازية في الحكم ( ب م ن  ص67)

لايحتاج المرؤ بعد اطلاعه على هذا الإرث الأيديولوجي لفكر حزب البعث ( والذي تعمدنا أن تغطي  اختياراتنا من الشواهد الجوانب الأساسية المتعلقة بموضوع هذه الفقرة) إلى كبير عناء لكي يستنتج :

أولاً غياب الوضوح النظري ، بل والتناقض ، في رؤية الحزب للمسألة الديموقراطية ، سواء بالنسبة لدستور 1947

 أو لمقررات المؤتمر القومي السادس 1964 ، الأمر الذي ظل ساري المفعول بهذه الصورة أو تلك في كافة مقررات 

  المؤتمرات القومية والقطرية اللاحقة .

    ثانياً محاولة الحزب الجمع التعسفي بين المتناقضات ولا سيما الجمع بين العقلية النخبوية ـ الطلائعية  التي تقوم على

ا لوصاية على  الجماهير واستبعاد  الرأي الآخر  ، وبين اعتبار أن الجماهير هي صاحبة الحق في   السلطة والسيادة.

ثالثا  غلبة الطابع المعتدل القومي ـ الشعبي على فكر المرحلة التأسيسية/ العفلقية ( دستور الحزب 1947) ، والطابع 

المتطرف " اليساري" على فكر الحزب بعد قيام " ثورتي" شباط ( في العراق) وآذار( في سورية) عام 1963 والذي

عكسته ماسمي بـ " بعض المنطلقات النظرية " التي أقرها المؤتمر القومي السادس عام 1964 .

ومن جهة أخرى فإن هذا قد انعكس في شكل علاقة جدلية سلبية بين كل من البنيتين الاجتماعية والأيديولوجية للحزب

ولا سيما بعد وصول الحزب أولى درجات سلم السلطة في العراق وسورية ، الأمر الذي ترتب عليه انقسام الحزب         

إلى حزبين   حزب عراقي غلب عليه الطابع القومي العفلقي ، وحزب سوري غلب عليه الطابع القطري الطائفي . إن هذه الصورة المأساوية الحزبية ، قد تحولت لاحقا إلى صورة مأساوية قومية وقطرية ، أثرت تأثيرا كارثيا على مجمل حركة التحرر الوطني العربية ، ذلك أن هذا الحزب الذي وضع شعار الوحدة العربية كأولوية أولى عنده على المستويين النظري 

والعملي فد تحول الآن إلى سد منيع للحيلولة دون أي تواصل من أي نوع بين قطرين عربيين متجاورين محكومين ـ نظرياً ـ

من نفس الحزب ، بل ومن نفس الإطار النظري . واقع الحال أن رغبة النظامين في المحافظة على الوضع القائم في وبين بغداد ودمشق ، والذي ـ أي الوضع القائم ـ يتناقض عملياً مع إرادة الشعبين في سورية والعراق ، قد جعلهما يتخليان عن شعار الحرية / الديموقراطية ، الذي هو الشعار الثاني من شعارات الحزب ( الوحدة ، الحرية ، الإشتراكية ) ويمارسان

سياسة قطرية انفصالية ـ  إنعزالية ، لدرجة أن النظام السوري كان يكتب على كافة جوازات السفر السورية ، أن هذاالجواز يتيح لحامله زيارة كل بلدان العالم عدا العراق  !!.

 واقع الحال ، فإن النموذج السوفييتي ذا الحكم الشمولي الوحيد الحزب  والمركزية الديمقراطية ، كان النموذج الذي سارت على هديه  المجموعةالحزبية التي عرفت لاحقاً بـ " القطريين " والتي كان عمودها الفقري كتلة الضباط البعثيين وغير

البعثيين من الطائفة العلوية التي قامت بالتخلص تدريجيا من كافة شركائها ، من غير البعثيين  في انقلاب الثامن من آذار 1963 ، وخاصة من مئات الضباط الناصريين الوحدويين ، إثر فشل محاولتهم الإنقلابية في 18 تموز 1963 ، ثم استدارت

بعد ذلك لتصفي خصومها داخل حزب البعث نفسه ، تلك التصفية التي شكلت حركة 23 شباط / فبراير 1966 أحد مفاصلها 

الرئيسية ، والتي بلغت غايتها بما سمي بالحركة التصحيحية التي قام بها حافظ الأسد عام 1970 ، والتي  أورثها ولده بشار

بعد وفاته في 10 حزيران عام 2000 . إن مايجري في سورية اليوم لايمكن فصله عما جرى فيها بالأمس وعما قد يجري

فيها غداً ، ولهذا كان لابد من فحص الموروث لمعرفة خارطة طريق الوارث .

3. بشار الأسد وتركة الوالد الثقيلة :

إن ماحدث ويحدث في سورية منذ وفاة حافظ الأسد في العاشر من حزيران عام 2000 ، لايترك مجالا للشك في أن عهد   

الإبن ، الذي جاءت به نفس الدبابة التي جاء ت بابيه إلى سدة الحكم ، لن يكون سوى امتدادا بهذه الصورة أو تلك لعهد أبيه  و الذي يمكن تحديد أبرز معالمه بـما يالي :

ـ التغييب الكامل لدور الشعب في الحياة السياسية الداخلية والخارجية ،ومصادرة الحياة الديمقراطية جملة وتفصيلاً

ـ الترسيخ الدستوري لهذا التغييب وتلك المصادرة ، عندما وضع عام 1973 دستورا جديدا كرس فيه حزب البعث

  ( وهو الاسم الحركي للحكم العسكري الفئوي في سورية ) قائدا للدولة والمجتمع !! ، والذي تم تعديله بصورة كاريكاتورية

  بعد وفاة الأب ، ليصبح على مقاس الإبن فيما يتعلق بمسألة العمر .

ـ تكريس أشكال من الديمقراطية الإعلامية التي تمثلت بعدد من المنظمات الشعبية والحزبية والجبهوية التي برهنت التجربة

  ا لملموسة أن دورها لم يكن ليتعدى التسبيح بحمد قائد المسيرة  ! ( الأب ومن ثم الإبن )

ـ إخضاع السلطتين التشريعية والقضائية للسلطة التنفيذية ( بدل العكس ) ، الأمر الذي ذهب بهيبة الدستور والقانون بل

  وبهيبة الدولة كلها .

ـ توجيه كافة مؤسسات الدولة وأجهزتها الإعلامية والتربوية والتعليمية ، بما في ذلك الجامعات ، لتكريس ظاهرة " عبادة

  الفرد "، والتي كانت وما تزال تتجاوز الشخص نفسه إلى آرائه السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية، باعتبارها البوصلة

  النظرية التي على الجميع أن يسيروا على هديها ! .

ـ تكريس ظاهرة الفساد الإداري والمالي ، التي باتت تنخر عظام المجتمع . إن الاقتصاد السياسي للفساد  يشير إلى ملازمة

  هذه الظاهرة الباثولوجية لكافة الأنظمة غير الديمقراطية التي تنعدم فيها الشفافية والرقابة والمحاسبة ، والتي يحتاج الحاكم

  فيها إلى شراء الذمم والتغاضي عن تجاوزات الأزلام والمحاسيب والأقارب وأجهزة الأمن الذين يعوض الحاكم بهم غياب

  التأييد الشعبي والجماهيري له .

ـ الهيمنة على القطاع العام  وتحويله إلى ملكية خاصة  بالنظام ، الأمر الذي تحول معه هذا القطاع إلى بؤرة للفساد والإفساد

  والإرتزاق غير المشروع .

ـ تكريس حالة الطوارئ والأحكام العرفية التي ماتزال مستمرة منذ 1963 ، والتي يستخدمها النظام عادة لتجاوز الدستور

  والقانون متى وانّى وكيف يشاء والتي كانت ثمرتها المرّة عشرات الآلاف من الضحايا مابين سجين وشهيد ومفقود.

  ـ نقل ظاهرة توريث معاوية ابنه يزيد الحكم من القرن السابع الميلادي إلى القرن الواحد والعشرين ! ، ضاربا عرض 

    الحائط بكل قيم الديمقراطية التي تجمع على احترام حقوق الإنسان ومبادئ  المساواة في الحقوق والواجبات بين كافة

   أبناء الوطن ، الأمر الذي يتناقض جذريا مع احتكارالسلطة من قبل أية فئة أ و فرد ، فكيف باحتكارها ثم توريثها !! .  

ـ العجز عن حماية أرض الوطن والدفاع عنها في حرب حزيران عام 1967 ، وكذلك حرب أكتوبر عام 1973 ،الأمر الذي

   باتت معه  " إسرائيل " تقف على أبواب دمشق ، وبات النظام  يقف عاجزا عن تحرير الأرض المحتلة منذ عام 1967

  بل وحتى عن التذكير بها ( الجولان ) حتى في نشرات الأخبار اليومية ، ناهيك عن الإستعداد الشعبي والرسمي لتنفيذ وصية المرحوم جمال عبد الناصر " ماأخذ بالقوة لايسترد إلاّ بالقوة " .

 

  وهكذا فإن النظام السوري الراهن ( نظام الإبن ) الذي  جاء إلى سدة الحكم قبل ثلاث سنوات وهو يحمل هذا الإرث

السلبي الثقيل ، الذي ورثه عن أبيه ، لايمكنه أن يخرج ويخرج ( بالضم ) معه الشعب والوطن من هذا المأزق التاريخي

 والأخلاقي ، إلاّبأن يعترف ويعترف معه كل  من يهمهم الأمر من أولي الأمر والنهي في  النظام بكل تلك الأخطاء  والإرتكابات التي لم يعد يختلف حولها اثنان ،وألاّ يرفضوا اليد الممتدة إليهم من المعارضة وأن يستجيبوا للمطلب المشروع   الذي نقتبسه حرفيامن بيان إحدى القوى الوطنية السورية المعارضة التي تدعو فيه إلى:

" عقد مؤتمر شامل للحوار الوطني ، يبحث جميع القضايا التي تهم الوطن والمواطنين ، ويضع برنامجا وطنيا شاملا للإصلاح الجذري ،

للإنتقال بالبلاد من حالة النظام الأحادي الشمولي الاستبدادي ، إلى حالة الإنفراج السياسي ، والنظام التعددي الديمقراطي ، ويحدد الخطوات

العملية لتنفيذ هذا البرنامج الوطني "

وإذا ماكان عقد مثل هذا المؤتمر متعذرا ـ لسبب أو لآخرـ ، فيمكن العودة إلى عشرات المقترحات الإيجابية والمسؤولة

التي ورد ت في البيانات السياسية المختلفة التي صدرت عن أحزاب وقوى المعارضة السورية في الداخل والخارج

إثر / بعد خطاب القسم الرئاسي الشهير ،والتي تنطوي على أكثر من اقتراح عملي وممكن لإخراج بلدنا العزيز من محنته

التي  طال أمدها ، والتي لايرغب مخلص وشريف في استمرارها وتحولها إلى مرض مزمن .

 

وفي الختام، يرغب كاتب هذه الرسالة أن يشير إلى استقلاليته السياسية والفكرية ، وإلى أن دافعه الوحيد لكتابة هذه  الرسالةالمفتوحة إلى من يهمهم الأمر في دمشق ، هو غيرته على أبناء وطنه بكل أطيافهم السياسية والاجتماعية  و ذلك تحقيقا لمبدأ " أنصر أخاك ظالما أو مظلوماً "  والله من وراء القصد .