بيوت الزُّجاج!
رُؤى ثقافيّة 108
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي
1- على الرغم من أن الإعلام الغربي، وجوقته من الببغاوات، لا يكفّ عن التذمّر من الإرهاب، والأصوليّات، والتمييز العنصري، وعدم الديمقراطيّة، ورعاية الحقوق الإنسانيّة، فإنه في المقابل لا يتهم أحدًا من بني جلدته أو دِينه، أو أصدقائه أو حلفائه، بالمسيحية السياسيّة، أو باليهوديّة السياسيّة- على طريقة «الإسلام السياسي»- أو بالأدلجة، والأصوليّة. كيف، وهو طابخ شعاراتنا لنا، فيما لأهله ما يشاؤون، ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم، كالشعراء مع اللغة؟! كيف، والمؤسّسة العسكريّة الإسرائيليّة هي مؤسّسة دِينيّة، أصلًا وفصلًا، والدولة العبيريّة برمّتها تستمدّ كلّ مبرّراتها وشرعيّاتها وتزييفاتها التاريخيّة من الدِّين اليهودي والتلمود. وإنْ لم تجده فيما كُتب في تلمودها وأسفارها، ابتكرته، وتأوّلته، وزوّرته من جديد، وأعادت تدويره في العالم أجمع! كما أنه أيضًا- ويا للمهزلة!- لم يتّهم أحدٌ الباشا (المنعول)- صاحب أشهر عبارة شكر في التاريخ: «شُغرًا جغيلًا»- بالمسيحيّة السياسيّة، يوم أن كان يمثّل باشا الباشاوات، ولمّا كان يدّعي أن غبطة/ فضيلة/ سماحته يأتيه وحيٌ من السماء مباشرة، بل لقد أصبح كليم الله، يناجيه بما ظلّ يفعله بالعرب والمسلمين لثماني سنوات، بحُجّة محاربة الإرهاب! وهي سنوات عن سنين. على نحو قول (نزار قبّاني)(1):
«فنحن منذ ثلاث سنين
لم ندخل في احتمالات اللون الأزرق...».
«ثلاث» و«سنين»، على طريقة العوامّ في عدم التفريق بين «السنين» و«السنوات»، وكان الصواب أن يقول: «ثلاث سنوات»، بجمع القلّة، لا «سنين» بجمع الكثرة. غير أن خطأ نزار كان صواب (بوش). فقد كانت ثماني سنين بالفعل، كثيرة وطويلة. ليحوّل الباشا حربه السياسيّة، المطبوخة سَلَفًا، إلى حرب دِينيّة، صليبيّة إسلاميّة. مع أن الذين فجّروا بُرجَي التجارة في (منهاتن) فجّروا المسيحيين واليهود والمسلمين في آن، ولا علاقة للإسلام بفعلتهم. لكنه الربط المسيّس للدِّين من كلا الطرفين، حتى بات الإسلام يَنكأ جرحًا في الغرب، لا لحماقة بعض المسلمين فحسب، ولكن أيضًا للاستغلال التسييسي المقابل، الذي بادر إلى ربط الإسلام- بوصفه دِينًا- بالإرهاب، وجعل الإسلام وصفًا للإرهاب، في حين يُلبس سياسته هو مسوح الدِّين المسيحي، ولا ضير؛ وذلك لضرب عصافير عدّة، سياسيّة ودِينيّة وثقافيّة، بحَجَرٍ واحد! مترجمًا بوش، بزعمه التنبؤي- ومن وُجهة أمثاله- ما يُنسب إلى (السيّد المسيح عيسى بن مريم)، عليه السلام: «ما جئتُ لأُلقي في الأرض سلامًا، بل سَيفًا! »
-2-
على أن للإخوة المسيحيّين تفسيراتهم المحترمة لنصّ «السيف». منها ما عبّر عنه المطران المصري (الأنبا بيشوي)، قائلًا إنه «كان في بداية انتشار الإيمان يحدث أن يؤمن الابن أو الابنة، مثلًا، بالمسيحية ولا يؤمن الأب، الذي يُسلِّم أولاده للحاكم الوثني ليقتلهم، أو يقتلهم أبوهم. وهكذا تسبَّب الإيمان بالسيد المسيح في سفك دماء الشهداء منذ بداية المسيحية.» أو بمعنى: إنه جاء فيصلًا بين الحقّ والباطل.(2) معتمدًا في هذا- كما هو واضح- على سياق النص، حيث جاء، استكمالًا: «فإني جئتُ لأفرّق الإنسانَ ضدّ أبيه، والابنةَ ضدّ أمِّها، والكَنَّةَ ضدّ حماتها. وأعداءُ الإنسانِ أهلُ بيته.»(3) ولكن، إذا سُلّم بهذا، ألم يقل (يوحنا المعمدان) للفرّيسيّين والصَّدُّوقيّين- الذين يدعوهم بـ«أولاد الأفاعي»-: «والآنَ قد وُضِعتْ الفأسُ على أصل الشَّجَر، فكلّ شجرة لا تصنع ثمرًا جيِّدًا، تُقطع وتُلقَى في النار»؟(4) مشيرًا إلى أن الذي سيأتي بعده، أي يسوع، سيعمِّدهم بروح القُدُس وبـ«نارٍ»، وأنه سيُحرق التِّبن بـ«نارٍ لا تنطفئ». وكذا ما جاء عن يسوع: «مَن ليس معي فهو عَلَيَّ، ومَن لا يَجْمَعُ معي فهو يُفَرِّقُ».(5) ومنه جاء الشِّعار «من ليس معنا فهو ضدّنا». وكذا وَصَفَ بعضَ محاوريه بـ«أولاد الأفاعي»، وبالجيل الشرير الفاسق.(6) وأَعرَضَ وتولَّى عن المرأة الكنعانية التي استغاثت به لشفاء ابنتها المجنونة، قائلًا: «ما أُرسلتُ إلّا لخِراف بيت إسرائيل الضالّة»، ثم قال: «ليس حسنًا أن يُؤخَذ خُبز البنين ويُطرح للكلاب!»(7) على الرغم من أن «خُبز البنين» كانت تكفي منه خمسةُ أرغفة وسمكتان خمسةَ آلاف رجل، عدا النساء والأولاد، وتبقى منه اثنتا عشرة قُفَّة مملوءة!(8) وقد جاء تسويغ الوصف بـ«الكلاب» في (إنجيل برنابا، الفصل22)، بأن «الكلب أفضل من رجل غير مختون»، وبلفظٍ آخر: غير مؤمن، ولا متبع لشريعة إبراهيم. وقد شُرح ذلك هناك شرحًا منطقيًّا مقنعًا حقًّا، بأن الكلب أفضل بكثير من بعض البشر، وبما يُذهِب شبهة الشتيمة. ومن العجيب أنهم ينكرون تهمة تحريف الأناجيل، حتى إذا تعلّق الأمر بإنجيل برنابا، أنكروه هو، أي الإنجيل نفسه برمّته، ناسبينه إلى التحريف! وكان (البابا جلاسيوس الأوّل)، الذي تسنم عرش البابويّة 492م، قد أصدر «فرمانًا» بمنع تداول إنجيل برنابا. مع أنه أقرب إلى منطق العقل والواقع بكثير من غيره، بل لعله، لذلك السبب، كان الموقف منه. وبصرف النظر عن هذا الجدل الإنجيلي، ألا يمكن أن يرى القارئ، لو شاء الجدل، في مثل تلك النصوص فِكْرًا استئصاليًّا للمخالفين من جهة، وغير لُطف في التعامل مع الآخرين والتخاطب معهم، من جهة أخرى؟ ومن ثَمَّ فإن ما يأخذه هؤلاء من عُنف في خطاب الشريعة الإسلاميّة، ومنابذة للخصوم، مثلُه كان يبدو في الشرائع السابقة أيضًا، بما في ذلك المسيحيّة وما يأتي منسوبًا في أناجيلها إلى المسيح. بل إنه ليظهر ذلك حتى في التعامل مع الطبيعة؛ فيسوع لمـّا جاع، وأتى إلى شجرة التِّين فلم يجد فيها شيئًا، قال لها: «لا يَكُنْ مِنْكِ ثَمَرٌ بَعْدُ إلى الأَبَد!. فَيَبِسَت التِّينَةُ في الحال»!(9) فلسائل أن يسأل: فما ذنب الشجرة يلعنها لأنه كان جائعًا ولم يجد عليها ما يأكله؟! أ هي تثمر من تلقائها؟!
تلكم، إذن، الخلفيّات الدِّينية والإديولوجيّة التي تنطلق منها سياسات القوم إلى اليوم، وما يرمون به غيرهم يتبيّن أن لديهم من أمثاله غير قليل.
-3-
من أجل تلك المنابذات كلّها باتت إقامة مركز إسلامي بائس في (نيويورك)، مثلًا، جريمة كبرى، تثير «ضجّة بين أتباع أحمد والمسيح»، كما عبّر عن ذلك- حسب «معتقده»، أو ما أسماه بـ«رأي واجتهاد»- (السيّد صادق جلال العظم).(10) مذكِّرًا المسلمين- لا فُضّ فوه!- بأن بيوتهم من زجاج، وأن عليهم أن يحترموا نفوسهم! متسائلًا عن مدى الاستفزاز والإهانة الناجمين من مشروع بناء المركز الإسلامي والمسجد بالقرب من «البقعة رقم صفر» (جراوند زيرو) في مدينة نيويورك، لكرامة الأمريكان؟ متناسيًا أن أمريكا ليست بقوميّة عِرقيّة، وليست دِينًا واحدًا على ضِفّة المواجهة، بل هي نموذج للتعدّد والتنوّع من الفسيفساء البشرية، وأن كثيرًا من هؤلاء الذين نافح عن كرامتهم العظمُ هم عربٌ وأفارقة وأسيويّون ومسلمون، وهم أعرف بشعاب كرامتهم وحقوقهم الدستوريّة والوطنيّة منه. ولقد داور الرجل في ذلك المقال باحتراف متمخِّضًا عن زبدة المقال، أو «المطلوب إثباته»، وهو: التبرير غير المباشر لحرق القرآن الكريم- أو تهديد الـ Backlash الأمريكية بإحراق القرآن بطريقة طقوسية مشهدية عامّة، بمناسبة ذكرى 11 سبتمبر 2001، والتهديد الذي أطلقه القسيس الإنجيلي من ولاية (فلوريدا)- كِفاء ما قام به بعض الأقلية المسلمة في مدينة (برادفورد) في (بريطانيا) سنة 1989 من إضرام النار برواية (سلمان رشدي) «الآيات الشيطانية». إضافة إلى تذكير العظم بتدمير (طالبان) عام 2001 لأصنام بوذا! وهكذا يُثبت بعض العرب أنهم أكثر إنصافًا للغرب ضد سطوة العرب والمسلمين من الغربيين أنفسهم، وهم ما يفتؤون يقدِّمون إلى الغرب النصائح والتوجيهات لإدارة شؤونه، على الطريقة العربية، في عقر داره، فإن غابت عنه أصول الحكمة المشرقيّة أو العدالة العربيّة ذكّروه بها، مستنبطينها له بكل حصافة- كما فعل العظم- وإنْ، كما قال، من فقه: «الحكمة العربية الشعبيّة الشائعة والقائلة: من كان بيته من زجاج لا يرمِ الناس بالحجارة»! ومع أن هذه الحكمة- على حدّ علمنا حتى الآن- ليست عربيّة، فضلًا أن تكون «شعبيّة شائعة»، فلا بأس؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها التقطها؛ فهو أحق بها وأهلها. والغرب شاطر، ويلتقط الحكمة دائمًا، بل ينتحلها انتحالًا على مرأى من العالم ومسمع، منذ التقاطه حكمة (ابن سيناء) المشرقية إلى التقاطه حكمة (ابن الشاطر الدمشقي) الفلكيّة.. إلخ. إلخ. إلخ.
والمهم هنا ليس تحقيق أصول الحِكَم والأمثال الشعبيّة وهجراتها بين الشعوب، بل أن يستفيد الغربُ من حكمائنا، وملتقطاتهم المعرفية، فلا يُفَرِّطَنَّ في حقوقه المهدرة، ليدع- لا سمح الله!- الأقليّات المسلمة، أو حتى الأكثرية المسلمة، تستغفله في دياره، وتضحك على ذقونه، وتنسيه أحداث التاريخ، فإذا هو يسهو أو يتسامح أو يتهاون، باسم الديمقراطية، أو الحقوق الدستوريّة، أو حقوق الإنسان، أو حقوق الأديان، أو ما شابه ذلك من خزعبلاته المبتكرة الحديثة، بل عليه أن يستفيد من خبراتنا السياسيّة الأصيلة، ويحاكيها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فيعامل أمّتنا وفق نواميسها العريقة. ونحن، بحاتميّاتنا المعهودة، على أتمّ الاستعداد أن نتطوّع لدعمه «اللوجستي» في هذا المجال، إنْ لزم الأمر!
(1) من نصه بعنوان «هل تجيئين معي إلى البحر»، من مجموعته «هكذا أكتب تاريخ النساء».
(2) انظر: (2009)، الرد على البهتان في رواية عزازيل، (؟: ؟)، 17.
(3) إنجيل متى، الإصحاح 10: 34- 36.
(4) م.ن، 3: 10.
(5) م.ن، 12: 30.
(6) م.ن، 12، 16.
(7) م.ن، 15: 24- 26.
(8) م.ن، 14: 14- 21.
(9) م.ن، 21: 18- 19.
(10) الصفحة الثقافية، جريدة «الجزيرة» السعوديّة، عدد الخميس 19 ذي الحجّة 1431هـ.-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «بيوت الزُّجاج!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الأربعاء 22 مايو 2014، ص34].