رداً على ماجد كيّالي حول "هزال مشروع دولة لكل مواطنيها"
الحياة
أثارت المقالة التي كتبتها في موقع «العربي 21» بتاريخ 27 تموز (يوليو) 2016، تحت عنوان «هزال شعار دولة لمواطنيها في فلسطين»، رداً من الكاتب والباحث ماجد كيالي، نشره في «الحياة» بتاريخ 19 آب (أغسطس) 2016، تحت عنوان «نقاش مع الكاتب الفلسطيني منير شفيق».
وللأسف، لم يناقش الجوهر الأساسي الذي قام عليه النقد لمشروع دولة لكل مواطنيها في فلسطين، ألا وهو ما حمله من تنازل مجاني لمن اعتبرهم مستوطنين استعماريين إحلاليين. فأعطاهم حقاً في المواطنة مساوياً لحق الشعب الفلسطيني. وذلك على رغم الاشتراط الذي يتوهم أن من الممكن أن يتخلوا عن عقيدتهم الصهيونية ويساهموا في تفكيك النظام الاستيطاني الاستعماري الإحلالي. فطبيعة المستوطنين أن يبقوا حكاماً وأصحاب الامتياز أو أن يرحلوا. وهذا ما حدث في الجزائر (الرحيل)، أما في جنوب أفريقيا فما زالوا في قلب الدولة وفي موقع المتميز على رغم الغلالة الأفريقية.
صحيح أن هذا التنازل المجاني، ومنذ الآن، جاء «مشروطاً»، إلا أنه أعطى حقاً لمن لا حق لهم في فلسطين ممن هاجروا إليها، ودخلوها بالقوّة تحت حماية حِراب الانتداب البريطاني، واستوطنوها وأقاموا كياناً (دولة) فيها وشرّدوا ثلثي شعبها واستولوا على ممتلكاته وبيوته وأراضيه. وهو ما لم يفعل مثله المستوطنون في جنوب أفريقيا مثلاً. فما من مستوطن سكن بيتاً لأفريقي وطرد منه إلى خارج البلاد.
إن إعطاء هذا الحق من الآن وبالمجان يُضعف الصراع الدائر حول لِمَنْ الحق في فلسطين، ويفتح الباب لمناقشة واقعية الحلّ بعد أن يكون أولئك المستوطنون قد أُعطوا الحق بالمواطنة المتساوية، وهو الخطأ الذي وقعت فيه فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية في طرح مشروع الدولة الفلسطينية الديموقراطية العلمانية التي يتساوى فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون. وذلك بإعطائهم حقاً متساوياً فيما هم لم يقابلوه بمثله واعتبروا أن من حقهم أن يختاروا حلاً آخر.
فالخطأ هنا أن يُطلب من الفلسطينيين والعرب إعطاء حلّ نهائي للقضية الفلسطينية. لأن التقدّم بأيّ حلّ سيتضمن بالضرورة تنازلاً مجانياً للوجود الصهيوني. ويفتح الباب لحلول أخرى ومفاوضات. وهو ما ارتكبته مثلاً أيضاً، قمة بيروت في 2002 من خطأ استراتيجي، حيث عرضت مشروع مبادرة السلام العربية التي أبدت الاستعداد للاعتراف العربي بـ»الدولة الإسرائيلية» إذا قامت دولة فلسطينية على أراضي 1967، وتأكيد حق العودة.
فها هنا أيضاً، قُدِّم تنازل مجاني بالاستعداد العربي للاعتراف بدولة «إسرائيل» ولو كان مشروطاً. وقد جاء الموقف الصهيوني والغربي مرحِبّاً به مع التحفظ عن شرطيه. وأخذت الضغوط تنهال لمناقشة حلول أخرى، كما فتح باب التطبيع.
إن مشروع دولة لكل مواطنيها يُضعف ما يعطيه القانون الدولي من حق حصري للشعب الفلسطيني في تقرير مصير فلسطين. كما يُضعف اعتبار القانون الدولي أن ما حدث من تغيير سكاني وجغرافي في ظل الاستعمار ونتائجه، غير شرعي وغير قانوني. فمشروع دولة لكل مواطنيها يضرب إسفيناً في كل من ذلك الحق الحصري وفي ما حدث من تغيير جغرافي وسكاني.
ثمة إشكالية أخرى تتعلق بموضوع الفعل الاستيطاني الاستعماري الإحلالي وهل يتأثر بالأيديولوجية التي يحملها المستوطن الذي سكن بيتاً فلسطينياً (الغالبية فعلت ذلك عام 1948 وبعده). وذلك بمعنى: هل ثمة فارق إن كان صهيونياً من أتباع هرتزل أم شيوعياً، أم يسارياً أم متديناً، أم ليبرالياً، أكان مثقفاً أم موسيقياً أم شاعراً؟ فالشكل هو سكناه في بيت فلسطيني والاستيلاء على ممتلكاته وأرضه. فقد جاء أولئك المستوطنون إلى فلسطين وهي مسكونة معمرة مفروشة مزروعة. وهو ما جعل شرط إقامة الكيان الصهيوني، ومن قبل ذلك تطبيق قرار التقسيم لعام 1947، غير ممكنَيْن إلاّ بطرد الفلسطينيين من مدنهم وقراهم وبيوتهم وأراضيهم.
هذه المشكلة الثانية تتطلب من دعاة مشروع دولة لكل مواطنيها أن يقولوا لنا ما هي استراتيجيتهم لتفكيك هذا الكيان - النظام – ثم كيف سيتخلى المستوطنون عن أيديولوجياتهم ليمارسوا «حق المواطنة»، ما يناقض وجودهم ومصالحهم فوق بيوت وأراضٍٍ اغتصبوها؟
لقد ترك ماجد كيالي كل ما تقدّم. واعتبر بعض المتفرعات في المقالة، على أهميتها، هي الأساس. وقد لخصها بثلاث مسائل ردّ عليها وهي كما وردت في مقالته بأنني أخذت عليه أولاً انتقاد الفصائل الفلسطينية «بقسوة بالغة»، والثانية أنني اعتبرت الحديث عن الدولة الواحدة الديموقراطية في مثابة تفريط بهدف دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات في الأراضي المحتلة (1967)، والثالثة أنني استكبرت الحديث عن وجود فكر سياسي فلسطيني خارج الفصائل.
فبالنسبة إلى انتقاد الفصائل، فلنقرأ لماجد كيالي وفي مقالته نفسها، وبالحرف الواحد: «إنني عندما أتحدث عن القطع مع التفكير الفصائلي السائد منذ عقود، لا أقصد فصيلاً معيّناً وإنما التفكير الذي أنتجته الطبقة السياسية السائدة، أكانت مع هذا الفصيل أو غيره، مع السلطة أو معارضة لها، لأنها تشتغل تحت السقف نفسه، وبالمفاهيم ذاتها، التي ثبت عقمها وفواتها، والتي أوصلتنا إلى ما نحن فيه».
هذا رأي ماجد كيالي بالفصائل مجتمعة، وكل الطبقة السياسية السائدة، فكيف يحتج على وصفه قاسياً قسوة بالغة؟ فمن يقرأ نصّه يجد هذا الوصف ناعماً جداً لأن نصّه يصدر قراراً بإعدام سياسي وفكري للفصائل، وإلا ما معنى «عقيمة وفائتة» أي فات زمانها (انتهت صلاحيتها)؟ ثم ما معنى أن الفصائل هي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه (حتى من دون مسؤولية لغيرها من أطراف وعوامل أخرى)... والفصائل قاومت وصمدت وقدّمت الشهداء والأسرى في مواجهة موازين قوى غير مواتية، لكنها لم تترك الميدان للعدّو خالياً من دون مقاومة وممانعة واستنزاف.
بكلمة، الفارق بين نقد الفصائل، مع التفاوت الواسع بينها، هو الفارق بين من يعتبرها منتهية الصلاحية، ومن يعتبر أنها، على رغم كل شيء ما زالت تملك إمكان الانتقال بالانتفاضة إلى المستوى الأعلى ويحضها عليه. فهي ما زالت في ميدان المواجهة مع العدّو الصهيوني (عدا جماعة التنسيق الأمني). أما نقدها فلا ميزة فيه لأحد على أحد، فما من ساحة تحرّر وطني كالساحة الفلسطينية، عرفت وتعرف نقداً من الجميع ضدّ الجميع. وعرفت تنوّعاً في المواقف. فلماذا كل ذلك التصوّر أن ثمة من يريد أن يمنع أحداً من التكلم، أو طرح المشاريع حين ينقد موقفه، إلاّ إذا كان ممن ينطبق عليه قول الشاعر «خَطَراتُ النَسيمِ تَجْرَحُ خدَّيْهِ ولَمْسُ الحَريرِ يُدْمي بنانَه».
أما في موضوع الموقف من الانتفاضة، فلنقرأ وبالحرف الواحد لماجد كيالي: «وحقاً لا أعرف أين هو الكفاح المسلح الذي يدعو له»، «كما لا أعرف عن أيّ دحرٍ للاحتلال، وعن أي انتفاضة في هذه الظروف».
هنا إنكارٌ للكفاح المسلح بالعموم والتخصيص. فهو لا يرى قاعدة الكفاح المسلح في قطاع غزة والتي خاضت ثلاث حروب ضدّ الكيان الصيوني وانتصرت فيها، واستعصت غزة على جيشه كما استعصى ويستعصي جنوب لبنان.
وهنا إنكارٌ أيضاً لانتفاضة مستمرة منذ عشرة أشهر استشهد فيها مائتا شهيد وبضع عشرات واستقبلت من جماهير الشعب بالدعم والتعاطف، والدليل جنائز الشهداء وخوف العدّو من تسليم جثامينهم. ثم المئات من الاشتباكات التي تحدث في القدس والضفة يومياً، ولا تنقلها أجهزة الإعلام. وكل هذا إضافة إلى نفيه أيّ دورٍ للفصائل واعتبارها «عقيمة ومنتهية الصلاحية». ولم يبق ما يُعتبر إيجابياً سوى الدعوة الى مشروع الدولة لكل مواطنيها التي أجابت عن كل الأسئلة والمشكلات التي تواجه القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، و»مثّلت نوعاً من تفكير جديد خارج الفصائل».
وأخيراً، كان يكفي التوقف عند هذا الحد، إلاّ أن الأستاذ ماجد كيالي يصرّ على إقحام الموضوع السوري في النقاش الفلسطيني. الأمر الذي يوجب عليّ الاعتراف بأن ثمة فارقاً واسعاً جداً بيننا هنا أيضاً. فهو يصبّ زيته على النار في سورية، أما أنا فأصبّ زيتي على نار الانتفاضة والمقاومة الشعبية ضدّ الاحتلال والاستيطان الصهيوني في فلسطين.
وسوم: العدد 683