مخبرون .. بغير مقابل !
شكا إلىّ الفتى الصالح – ولا أزكيه على الله – من وجود بعض أصحاب الضمائر الخربة الذين يتطوعون بالوشاية بشرفاء الناس إلى الجهات الأمنية بغية الحصول على حظوة لدى هذا المسئول أو ذاك ، فيكيدون للأبرياء ، ويحرمونهم من لقمة العيش أو العمل الشريف الذي يكفيهم ذل السؤال والحاجة .
قال لي: كنت أعمل في مكان ما بما يرضي الله ، وكنت فائقا في عملي ، وأحظى باحترام أصحاب العمل ، فإذا بي فجأة أجد المدير يبلغني ، وكنا قد اقتربنا من نهاية الشهر ، إنه يأسف لأن المكان استغنى عنه ، ويمكنني أن أذهب في حينه إلى الخزينة لأتسلم راتب الشهر كاملا !
سأل الفتى رئيسه :
- هل قصرت في العمل ؟
ارتبك الرجل وتغيرت ملامح وجهه ، وقال للفتى :
- لا لم تكن مقصرا في العمل ، بل أنت من أفضل الناس هنا ، وكنت أريد أن تستمر معنا ، وآمل ألا تحرجني فأنا غير مُخوّل بالحديث في الأمر.
عرف الفتى أن هناك من تطوع وأبلغ الجهات الأمنية أن الفتى يُصلّي ويحرص على الصلاة، مع أنه غير ملتح ، ولا متشدد كما يقولون ، وبعض أقاربه من المتخصّصين في الدراسات الإسلامية ، ويهتمون بها ، وهذا في نظر ( فاعل الخير ) يجعله إخوانيا ، أي إرهابيا في مفهوم النظام العسكري الانقلابي الدموي الفاشي!
ويتابع الفتى : رُشّحت لوظيفة مرموقة في بعض الجهات ، وأديت اختباراتها بنجاح ، وكنت أول الفائقين في مجال تخصّصي ، وتلقيتُ التهاني من القائمين على الاختبارات والمسئولين في جهة العمل ، وتطوع بعضهم وقدم لي رقم هاتفه لأتصل به . ومرت فترة ظننت فيها أن قرار التعيين لم يصدر ، وفوجئت بأن من نجحوا معي وكانوا أقل مني درجات تم تعيينهم فاتصلت بهاتف من احتفوا بي ، فإذا بهم لا يردون ، أو يزعمون أن الرقم خطأ .
اكتشف الفتى أن ( ابن حلال) ينافسه أو يحقد عليه لتفوقه تطوّع بالذهاب إلى القوم وأخبرهم أن الفتى ينتسبُ إلى أب يتعاطف مع الإخوان ويؤيّدهم ، فما كان من القوم إلا أن قرّروا عدم تعيينه !
سألني الفتي : لماذا يتطوع هؤلاء الناس بعمل المخبرين ورجال الأمن ؟ ولماذا يؤذون أمثالي ، مع أن عملي لا علاقة له بالسياسة ، ولا أتعامل معها ؟ ولنفرض أن بعض أقاربي ينتسب إلى الإخوان أو غيرهم ما ذنبي أنا ؟ ولماذا أعاقب بجريمة الآخرين وأنا لم أذنب ولم أرتكب جريمة ؟ إن الدول المحترمة يهمها الخبرة والأداء ، وليس الفكر والاعتقاد ، ودول أوربة تستعين بالنابغين من الإخوان في مختلف التخصصات والمهن دون أن يؤثر ذلك على سياستها أو موقفها .
قلت للفتى : هوّن عليك ، فنحن في زمن لا معايير له إلا النفاق والوشاية والتزلف والتدليس .. ومن المتوقع أن يحدث أي شيء .
قال الفتى : ثم هؤلاء الناس أصحاب العمل ، لماذا يعقدون الاختبارات ، ويكلفون طالبي العمل وقتا وجهدا ليثبتوا خبرتهم وقدرتهم على أداء العمل ، ثم بعد ذلك يربطون مصائرهم بوشاية كاذبة أو بلاغ رخيص، أو تقرير ظالم ؟
قلت له : يا بني نحن في جمهورية الخوف ، ودولة الرعب ، لا مجال فيها لقانون أو رحمة . نحن أمام حكومة تبذل ممتلكات الشعب وأمواله من أجل اكتساب شرعية لا تستحقها . إنها تستخدم كل ألوان العسف والظلم والأذى لتنكل بالشعب المخدوع ، وتُرهبه وترعبه لكي يُغلق فمه ، ويصفق لها بالباطل ، وإلا فما أكثر السجون وأضخمها، وإذا ضاقت السجون ففي المراكز والأقسام ومديريات الأمن وأقبية أمن الدولة ما يرحب بهؤلاء الذين لا يصفقون ولا يهتفون لحكومة الظلم والاستبداد والفشل العظيم ..
أصحاب العمل يا بني يخافون على أنفسهم ، وإذا انتقلت الوشاية ضدهم إلى الجهات القمعية فالويل لهم ولأعمالهم . يجب أن تعذرهم يا بني !
قال : وهل أبقى هكذا تحت رحمة الوشاة والكذابين ؟
ابتسمت قهرا ، وقلت له : هل قرأت رواية مزرعة الحيوانات وأختها 1984؟
قال : أنا لا أقرأ ، ولا شأن لي بغير تخصصي الذي هو بعيد عن الثقافة والسياسة . أنا أخرج من بيتي إلى عملي ، وأعود من عملي إلى بيتي ، حتى الفسح والتجول في الحدائق والشوارع لا صلة لي بها .
قلت له : اسمع ، قبل أيام حكمت إحدى المحاكم على أستاذ جامعي بالسجن سنتين والغرامة ، والتعويض المؤقت . كانت الجريمة المشينة التي ارتكبها الأستاذ أنه اتهم بعض رؤساء الجامعات كتابة وعبر الفضائيات أنهم ينتمون إلى الإخوان المسلمين ، وطالب قادة الانقلاب العسكري الدموي الفاشي بفصلهم من الجامعة ، ولما كان سيادته قد عجز عن إثبات أنهم من الإخوان فقد عاقبته المحكمة بالعقوبة المذكورة !
قال الفتى : لا يستطيع المخبر الذي يبلغ عني أن يثبت أني من الإخوان ، وليس لديّ دليل يثبت ما قاله .
قلت له : إن هذه الظاهرة المخجلة المشينة ليست قاصرة على من آذاك أو طاردك أو على الأستاذ الذي وشى برؤساء الجامعات وفاخر بعد ذلك أنه مخبر لا يؤرقه ضمير ولا يردعه دين ولا يمنعه شرف . إن الظاهرة نتاج نظام فاشي عنصري لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة . ألا تلاحظ يا بني أنهم اتهموا الإخوان ومعهم كل الإسلاميين بكل النقائص عدا تهم معينة لأنهم وجدوا أن أحدا لن يصدقهم فيها مثل السرقة والاختلاس والانحراف السلوكي . الإخوان من أشرف الناس وأنبلهم سلوكا وأفضلهم علما وأكثرهم نشاطا وأعظمهم تضحية من أجل الدين والشعب ، ويعترف بذلك أعداء الإسلام قبل محبيهم ، وقد اختارهم الشعب في انتخابات نزيهة مع غيرهم من الإسلاميين ليمثلوا الأغلبية في مجلس الشعب الذي حلّه العسكر في أثناء تحضيرهم للانقلاب الدموي!
وظيفة المخبر الأمني لا تليق بأستاذ الجامعة ، لأنها تقلل من قدره ومكانته؛ إذ يفترض فيه أنه ينحاز إلى الشعب الذي يمنح الجيش مئونته وسلاحه وقدراته ليحمي الحدود، وليس حكم البلاد وإذلال العباد. ومع ذلك فأستاذ الجامعة المخبر بوشايته المشينة لم يحصل على أية مكافأة، ولم يعين في وظيفة إدارية عليا ! أستاذ الجامعة يفترض فيه أنه ابن الحرية والديمقراطية والحكم المدني، ولكن الأستاذ المخبر وصمة عار تاريخية. طبعا لم يخطر بباله أن المعادلة يمكن أن تتغير ذات يوم فيصبح مطاردا ومطلوبا للقصاص العادل ؛ لأنه وقف ضد شعبه وضد الحرية والدستور.
اصبر يا بني إن العاقبة للمتقين، والصبر مفتاح الفرج ، وزمن المخبرين سيزول آجلا أو عاجلا ، لأن دوام الحال من المحال .
الله مولانا . اللهم فرّج كرْبَ المظلومين . اللهم عليك بالظالمين وأعْوانهم !
وسوم: العدد 686