أوراق الربيع (7).. الاستبداد وثنية سياسية
الاستبداد صنف من أصناف الوثنية. فالوثنية صنفان: اعتقادية وسياسية، وهي في جذورها ترجع إلى الجهل، كما بيَّن القرآن الكريم في قول الله عزل وجل: "قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ؟" (سورة الزمر، الآية 64) وفي قوله عز وجل على لسان موسى عليه السلام حين سأله قومه أن يجعل لهم صنما يعبدونه: "قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ" (سورة الأعراف، الآية 138).
وقد شن الإسلام حربا شاملة على الوثنية السياسية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا قَيْلَ ولا مَلِك إلا الله عز وجل." (مسند أحمد 32/199 بسند صحيح). كما استبشع النبي صلى الله عليه وسلم لقب "ملك الملوك" أو "ملك الأملاك" الذي كان يتلقب به ملوك بلاد فارس قبل الإسلام، فقال: "أغْيَظُ رجل على الله يوم القيامة وأخْبثُه... رجلٌ كان يُسمَّى ملك الأملاك. لا مَلِك إلا الله." (صحيح مسلم، 3/1688). "وقد فسَّره سفيان الثوري، فقال: هو شهنْشاهْ يعني: شاهْ شاهانْ بلسان العجم [الفُرس]." (علي القاري، مرقاة المفاتيح، /7/2998).
ويدل بغض النبي صلى الله عليه وسلم لأبَّهة المُلْك، واستبشاعه للقب "ملك الملوك" على المناقضة الأخلاقية بين القيم السياسية الإسلامية والقيم الاستبدادية التي كانت سائدة قبل الإسلام، حتى في التسميات والمصطلحات، وهو أمر ألحَّ عليه بعض العلماء الإسلام، مثل الصنعاني الذي كتب تعليقا على ما ورد في هذا الحديث من تسمية ملك الاملاك: "تحرُم التسمية بذلك، وأُلحق به تحريم التسمية بقاضي القضاة، وأشنعُ منه حاكم الحكام." (سبل السلام، 2/543).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي جيء به إليه وهو خائف يرتعد: "هوِّنْ عليك، فإني لستُ بملِك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد." (سنن ابن ماجه 4/430 بسند صحيح). وكان الوافد إلى المدينة قد لا يميِّز شخص النبي صلى الله عليه وسلم لأول وهلة، بسبب اختلاطه بعامة الناس وقربه منهم، وانعدام أي مظاهر لأبَّهة المُلْك في حياته، رغم أنه كان يقود دولة فتية، ويسيِّر جيوشا مظفرة. قال أنس بن مالك: "بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد ثم عقَله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكئٌ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتَّكِئ..." (صحيح البخاري 1/23).
وقد أخذ الصحابة رضي الله عنهم من هذا الهدْي النبوي بُغْض لقب "الملك" والأنفة منه، والتمسك بلقب "الأمير" الذي هو مصطلح إسلامي مجرد من ظلال الوثنية السياسية. قال أبو حامد الغزالي: "أرسل قيصر ملك الروم رسولاً إلى عمر بن الخطاب لينظر أحواله، ويشاهد فِعاله. فلما دخل المدينة سأل أهلها وقال: أين ملككُم؟ قالوا: ليس لنا ملك، بل لنا أمير." (الغزالي، التبر المسبوك في نصيحة الملوك، 18).
ومن أعراض الوثنية السياسية المبالغة في اتخاذ الألقاب المرتبطة بالدين، تعاظماً في أذهان العوام، حتى وإن كان حاملوها أبْعدَ الناس عن مقتضيات الدين السياسية، من الأمانة والعدل في الحكْم والقسْم، والغيرة على الدين، ورعاية المسلمين. وقد نسب الصنعاني إلى الزمخشري استبشاعه للألقاب التي تُوحي بخدمة الدين تظاهراً ومراءاةً. قال الزمخشري: "ما أقول في تلقيب من ليس من الدين في قَبِيلٍ ولا دَبيرٍ بفلان الدين؟ هي لعمري والله لَلغُصَّة التي لا تُساغ." (الصنعاني، سبل السلام، 2/543).
وعلى هذا النحو سَخِر الرحالة المغربي ابنُ جبير من الألقاب الدينية التي اعتاد أمراء المشرق في عصره إضفاءها على أنفسهم، مثل "شمس الدين" و"قطب الدين" و"سيف الدين"، وهم لم يكونوا يهتمون بدين ولا دنياً، بل تحكَّمت فيهم الأنانية السياسية، ثم تستروا وراء ألقاب فخمة جوفاء. واستثنى ابن جبير من حَمَلة هذه الألقاب صلاحَ الدين الأيوبي، الذي وجد أنه "اسمٌ وافق مسمَّاه ولفظٌ طابق معناه".
يقول ابن جبير:
العربية لم تسلَمْ من شوائب الوثنية السياسية، تحت تأثير اللغة الفارسية، ووطأة المواريث الساسانية
"سلاطين شتى -كملوك طوائف الأندلس- كلهم قد تحلَّى بحلية تُنسَب إلى الدين، فلا تسمع إلا ألقاباً هائلة، وصفاتٍ لذي التحصيل غير طائلة، قد تساوَى فيها السوقة والملوك، واشترك فيها الغنيُّ والصعلوك. ليس فيهم من ارتسم بسِمة به تليق، أو اتَّصف بصفة هو بها خليق، إلا صلاحُ الدين صاحب الشام وديار مصر والحجاز واليمن، المشتهرُ الفضل والعدل. فهذا اسمٌ وافق مسمَّاه، ولفظٌ طابق معناه، وما سوى ذلك في سواه فزعازعُ ريحٍ، وشهادات يردُّها
التجريح، ودعوى نسبة للدين برّحتْ به أيَّ تبريح:
ألقابُ مملكةٍ في غير موضعها / كالهرِّ يحكي انتفاخا صولة الأسد."
(رحلة ابن جبير، 216).
وتدل المبالغة في الألقاب في لغة أي أمة على عمق الوثنية السياسية في ثقافة تلك الأمة، كما لاحظ الكواكبي، الذي وجد أن اللغة العربية أفضل حالا في هذا من اللغة الفارسية، فقال: "يقول أهل النظر: إن خير ما يستبدل به على درجة استبداد الحكومات هو تغاليها في شأن الملوك، وفخامة القصور، وعظمة الحفلات، ومراسيم التشريفات، وعلائم الأبَّهة، ونحو ذلك من التمويهات التي يسترهب بها الملوك رعاياهم... وهذه التمويهات يلجأ إليها المستبد، كما يلجأ قليلُ العزِّ للتكبُّر، وقليلُ العلم للتصوُّف، وقليلُ الصدق لليمين، وقليلُ المال لزينة اللباس. ويقولون: إنه كذلك يُستدَلُّ على عراقة الأمة في الاستعباد أو الحرية باستنطاق لغتها، هل هي قليلة ألفاظ التعظيم كالعربية مثلا، أم هي غنيَّة في عبارات الخضوع كالفارسية." (الكواكبي، طبائع الاستبداد، 53).
لكن العربية لم تسلَمْ من شوائب الوثنية السياسية، تحت تأثير اللغة الفارسية، ووطأة المواريث الساسانية. وهو ما تدل عليه محاولة جلال الدولة البويهي أن يتلقب بلقب "ملك الملوك" انسجاما مع تراث أجداده من ملوك فارس، ونجاحه في استصدار فتوى من فقهاء السلطة بجواز ذلك، رغم مناقضته للحديث النبوي!
لكن الفقيه الماوردي رفض ذلك "والذي حمل القاضي الماوردي على المنع هو السنَّة التي وردت بها الأحاديث الصحيحة من غير وجه" (ابن كثير، البداية والنهاية، 12/54). وحمل ابن الجوزي على الفقهاء الذين أباحوا ذلك لجلال الدولة، واتهمهم بجهل السنة النبوية، فقال: "لا أرى إلا ما رآه الماوردي، لأنه قد صحَّ في الحديث ما يدل على المنع، ولكن الفقهاء المتأخرين عن النقل بمعزل" (المنتظم، 15/265).
كان ابن تيمية من العلماء المدركين أن الاستبداد وثنية سياسية وأن تحرير الضمائر من تقديس الحكام والتذلل لهم من أهم مقتضيات التوحيد وشُعَب الإيمان
ومن طرائف الأمثلة على وقوف العلماء الأحرار في وجه الوثنية السياسية ما ذكره ابن كثير عن شيخه ابن تيمية. فقد أورد ابن كثير هذين البيتين للمتنبي في مدح سيف الدولة:
يا من ألوذ به فيــــــــما أؤمِّــــــــــلهُ / ومن أعوذُ به مما أحـــــــــــــاذرهُ
لا يجْبُر الناس عظْماً أنت كاسِرهُ / ولا يهيضُون عظْماً أنت جابِرُهُ
ثم علَّق عليهما قائلا: "وقد بلغني عن شيخنا العلاَّمة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله أنه كان يُنكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوقٍ، ويقول: إنما يَصلُح هذا لجِناب الله سبحانه وتعالى. وأخبَرني العلامة شمس الدين ابن القيم رحمه الله أنه سمع الشيخ تقي الدين [ابن تيمية] المذكور يقول: ربما قلتُ هذين البيتين في السجود أدعو لله بما تضمَّناه من الذل والخضوع" (البداية والنهاية، 11/292).
لقد كان ابن تيمية من العلماء الأحرار المدركين أن الاستبداد وثنية سياسية وهي شقيقة الوثنية الاعتقادية، وأن تحرير الضمائر من تقديس الحكام والتذلل لهم من أهم مقتضيات التوحيد وشُعَب الإيمان. وهذا درسٌ عظيم للمسلمين اليوم: حرِّروا ضمائركم من الوثنية السياسية تتحررْ أجسادُكم من العبودية السياسية.
وسوم: العدد 688