الإلحاد في العالم الحديث

مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

الإيمان هو تجربة نفسية قبل أن يكون تجربة اشتقاقية من الدليل، وحالة اليقينية فيه ترتبط بالإيمان النفسي وهو ما تؤشره الأديان بالفطرة أو الجبلة، وحتى الدليل العقلي يرتبط بالقواعد النفسية لدى المؤمن أو ما يعبر عنها بالبديهيات أو العلم الأولي أو العلم الحاضر غير الحاصل لدى الانسان، والعلم البديهي هو الذي لا يحتاج الى برهان او دليل او هو قائم بذاته ولذاته، وقد استندت اليه افكار العالم القديم، ورغم اقصاء العالم الحديث له بعد إن التجأ الى التجريبي والحسي والمادي الا انه لازال يستند عمليا الى أولياته وبديهياته، وتقف العلّية وتجليها في السببية في صدارة هذه البديهيات، وهنا يستطيع أن يقدم المؤمن دليله العقلي في الايمان بالله سواء دليل الدور والتسلسل والعناية والنظام وغيرها من الادلة التي عرفتها الاديان التوحيدية أو مباحثها في العلوم الألهية، وسمة هذه القواعد النفسية والبديهية التي تنطلق منها تلك الادلة هي ارتباطها بالطبيعة الاولى للوجود الكوني والانساني.

لكن الطبيعة تعرضت الى حملة قاسية من جانب العلم الحديث الذي سيطر عليه الاقتصاد ومفهوم الربح الرأسمالي، وحلول الكمية المرئية والنفعية–البراغماتية في الثقافة الحديثة محل القيمة ورأسمالها الاجتماعي القديم، وقد اسهمت النار -الثقافة الحديثة في طبخ الكثير من معالم النيء– الطبيعة وهي لازالت تستمر في هذا الطبخ لاسيما ان الطاقة التي يستند اليها الاقتصاد الحديث هي طاقة النار المتولدة عن البخار والنفط والشمس، وهي ترمز الى إحراق الطبيعة تحت وطأة المفاهيم الحديثة التي خلفتها الحداثة في فهم الطبيعة والتعامل البراغماتي-النفعي البحت معها.

 وقد تحول العالم أو أوشك أن يتحول الى متطلبات العلم والثقافة الحديثة فلم تعد الطبيعة–الارض هي الأم الحنون التي رمزت لها الديانات الاولى بالإلهة الأم، بل صار الانسان هو السيد–المستبد بالطبيعة، وهي واحدة من تطورات فكرة مركزية الانسان في الكون الذي بشرت به الحداثة وصنعته، ولم تعد اقوال الطبيعة وحكمتها وقواعدها وفق ايحاءاتها الى الانسان هي التي تحكم مسارات الانسان وحياته، فعاد التشكيك بالقواعد التي تنبني عليها أدلة الايمان سمة رئيسية في الثقافة الحديثة لأنها قواعد ترتبط بعمق وبماهيتها الاولية بالطبيعة الاولى للكون والانسان، بل أن بعض التعريفات للطبيعة أخرجت الانسان من نطاقها باعتباره كائنا ثقافيا وبعضها وثقت علاقته بالطبيعة من خلال البيولوجيا فقط، لكن تعريفات أخرى ضمنت للإنسان فكرة الطبيعة الخاصة به، - جاء في قاموس روبير Robert ما يلي: 

" الطبيعة هي مجموعة الخصائص التي تحدد كائنا، أو شيئا، ملموسا أو مجردا. هي كل ما يوجد على الأرض، خارج الإنسان. وهي أيضا ما هو فطري في الإنسان يمتلكه منذ ولادته. وما هو خالص غير صناعي" وجاء في المعجم الفلسفي لجميل صليبا مايلي:

"الطبيعة هي مجموع ما في الأرض والسماء، من كائنات خاضعة لنظم مختلفة، وهي بهذا المعنى مرادفة للكون"- وجاء في المعجم الفلسفي لأندري لالاند ما يلي: 

" الطبيعة سمات خاصة تميز فردا ما، من حيث هي خصائص فطرية".

- وجاء فيه أيضا: " الطبيعة هي ما يوجد فينا بحكم الإرث البيولوجي" 

لقد نشأت الطبيعة الانسانية الأولى على الايمان بما وراء الطبيعة، وتأسست على الايمان بالمصدر الخارجي للوجود من وجهة نظر الاديان الالهية بل وحتى ما دون الالهية، وهي التي تشكل القاعدة النفسية الطبيعية لدى الانسان للأيمان بالله تعالى، ولعل تاريخ الانسان ومنذ فجر تاريخه يؤكد تلك المقولة الدينية. فقد رافق الايمان تاريخ الانسان منذ بداياته الاولى، ويقول المؤرخ الإغريقي بلوتارك "126- 46 ق م": "لقد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد". ان الايمان بالمصدر الخارجي للوجود تكشف عنه تلك الاديان البدائية الاولى والني تدور في الطوطميات والسحر والارواحية السائرة والسائدة في المجتمعات البدائية الاولى باعتبارها نسخة الطبيعة الانسانية الاولى. 

التأسيس الحديث للإلحاد في العالم الحديث 

مع الحداثة وفي الفترة الممتدة بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، كانت تثار تساؤلات حول إمكانية إنشاء نسخة ثانية للطبيعة لا تكون هي الطبيعة ذاتها بل الطبيعة وفق ما نفهمها وندركها ونتصورها لذاتها، وهي مقولة الفيلسوف الالماني كانط "الشيء بذاته والشيء لذاته" ورغم ان التأسيس الفلسفي للحداثة قام به فلاسفة مؤمنون وتنويريون مثل ديكارت وهيغل وكانط، إلا ان عقلنا البشري تم ضبط حدوده ومعالمه ومساحة ادراكه وفق الحسي والتجريبي والمادي والمرئي، وهي صيغ العلم والفلسفة التي طرحتها الحداثة المادية وليست الفلسفة–العقلية التي استندت اليها الحداثة في اول نشأتها ومنحت العقل ذلك الدور المميز في المعرفة والحياة.

 لتأتي الحداثة المادية وتقتطف كل ذلك الانجاز وتحوله لصالح الادراك الحسي والتجريبي والمادي الذي اطلقت عليه الواقعية باعتباره ضمن ما يقدمه الواقع الذي يعيشه الانسان، وبما ان الله خارج الحس والتجربة والمادة والمرئي صار ليس من مختصات العقل الحداثوي، وليس موضوعا لاهتمامه ودرسه وتناوله، وليس هناك ما يثبت وجوده استنادا الى الواقعية التي تمت صياغتها حداثويا من وجهة نظر اثنين من كبار الذين أسسوا للإلحاد في العالم الحديث وهم لودفيج فيورباخ "1804- 1872" م وكارل ماركس "1818- 1883م" ويضاف الى قائمة المؤسسين للإلحاد الحديث كل من "جارلس دارون" و"سيغموند فرويد" "اللذين صاغا نظرياتهم في الخلق والانسان بمعزل تام عن الله، رغم ان تفسيراتهم لا تقوم بالدليل على نفي فكرة الله وانما يتم استنباطه من خلالها.

لقد وضع فيورباخ وفق جيمس كولنز معارضة بين قوانين العقل ومطالب الايمان، لكن منطلقه في هذا التعارض هو المطلق الهيغلي الذي كان يرى فيه صورة ثانية للاله المسيحي ومطالب الايمان فيه، ويقرر فيورباخ ذلك التضاد بين تجليات المطلق الهيغلي في الواقع الانساني وماتقرره البيولوجيا والفيزياء، وهي تدخل في محاولة فيورباخ في رد كل ماهو فوق الطبيعة الى الطبيعة التي تشكل البيولوجيا والفيزياء أول قوانينها، محاولا بالوقت نفسه صياغة نسخة ثانية للطبيعة وفق تصورات ثقافية ومعرفية–فلسفية تقود الى عكس أو تغيير إتجاهات خطوط المعرفة القديمة للطبيعة التي كانت تستند الى ما فوق الطبيعة، وتكون بدايته في تأنيس الاله الهيغلي.

وإحالة الألوهية الى الانسان باعتباره مطلقا لا يحتاج الى المطلق الالهي، وهي تعبير عن الاتجاه الحداثوي العام في تأكيد وتوثيق مركزية الانسان في الوجود، يقول فيورباخ "المطلق بالنسبة للإنسان هو طبيعته الخاصة" وهنا تتشكل ازدواجية واضحة في تفكير فيورباخ، فالمطلق من جهة هو معرفا بـ "أل" التعريف ومن جهة هو بالنسبة للانسان فهو نسبي وتؤكده الطبيعة الخاصة للانسان التي يقررها فيورباخ، واذا كانت تلك طريقته في الالحاد في نقل الالوهية من الله الى الانسان فانه لا ينكر فكرة الله بالمطلق، بل هو يحيلها الى رغباتنا الذاتية وأن فكرة الله هي "أقنمة تلك الرغبات".

 اذا هو يحيل فكرة الله الى الحاجة النفسية–الطبيعية في الانسان، لكنه عبثا يحاول ان يقوض تلك الرغبة الدفينة والحاجة النفسية اللحوحة في الانسان باستبداله فكرة دين الله بدين انساني يتقوم من جديد بمقوم الألوهية ذاتها، وهو يشدد على "دين انساني واجتماعي خالص وخالي من فكرة الله" –كولنز– وبذلك تبقى فكرة او مضمون الالوهية قائمة وقوية عند فيورباخ وان اراد لها شكلا آخر لا يتخلى عن مضمونها الاول المرتبط بفكرة الكمال المطلق لاسيما عند فيورباخ.

وبينما يريد فيورباخ اعادة المطلق الى الطبيعة الانسانية، فان ماركس يسعى الى الغاء المطلق في الطبيعة الانسانية ونسف العلاقة بين هذه الطبيعة والمطلق الذي هو الله، فالطبيعة الانسانية تتحقق من وجهة نظره من خلال العمل الذي ينشط في الطبيعة، وتبدو الوحدة الجوهرية للمجتمع في تآلف الانسان والطبيعة من خلال العمل الذي يضمن له الاكتفاء الذاتي فلا يحتاج بعد ذلك الى الاله، وهي تذكرنا في تاريخ الاديان التوحيدية بحالة الطبقات المالكة لزمام الاقتصاد والمترفة الي كانت تعترض على دعوات الانبياء الى التوحيد، لكن هذه الخاصية في العمل التي تتسبب في نفي فكرة الله تستبطن ذات المطلق الذي اراد ان يتخلص منه ماركس لاسيما المطلق الهيغلي، لكن المطلق الماركسي كان مطلقا اجتماعيا وتاريخيا، وقد ظهر ذلك واضحا في المادية التاريخية والمادية الجدلية وكلانية التفسير الذي تطرحانه والشمولية في هذا التفسير الذي مهد أخيرا الى تحول الماركسية الى ديانة أيديولوجية لدى المتشددين الماركسيين، وباعتبار الاله مطلقا فان فكرة الالوهية تظل تلاصق المطلق الماركسي لاسيما وان ماركس يطابق بين الله والمطلق الهيغلي.

ولم يتعد جدل فيورباخ وماركس ذلك البعد الانثروبولوجي التاريخي والاجتماعي في نفي فكرة الله او الالحاد، ولم يكن يصدر عن تجربة عقلية او نفسية او نظرية خالصة، ولم يناقش ماركس فكرة الله بذاتها بقدر ما ناقش الحجج الفلسفية التي تناولتها في عصره، وهو حين يتناول هذه الادلة فانه لا يناقشها بقدر ما يفسرها فهو يقول "ان الادلة على وجود الله ليست سوى ادلة على وجود الوعي الانساني الذاتي والجوهري والتفسير المنطقي له".

 وهو في هذا لم يأت بجديد بقدر ما يوثق الذكاء الانساني والوعي المنطقي الذي يقود الى الله، وان لم تكن تلك غايته في هذا النص، وغاية ما يقدمه من دليل في نفي فكرة الله انك حين تسأل عن خلق الطبيعة والانسان فانك تتجرد من الطبيعة والانسانية وتلك اقصى الاحالات الى نسخة ثانية عن الطبيعة، بل هو يفترض عدم ايمانك بوجود الطبيعة والانسانية في حالة سؤالك هذا، فهو يقول "حين تتساءل عن خلق الطبيعة والانسان تجرد من الطبيعة والانسان، فانت تفترض مقدما انهما غير موجودين"، لكن في البديهية الانسانية والطبيعية أنك تسأل فيما هو موجود وعن ماهو موجود، وفي البديهية الانسانية فانه سؤال ملح و طبيعي يعيشه الانسان في تجربته النفسية–الخاصة والذاتية.

وسوم: العدد 696