ماذا جرى ويجري في حمص؟

د. محمد أحمد الزعبي

د. محمد أحمد الزعبي

هاتفتني ابنتي  مساء أمس من قارتها البعيدة ، لتوجه إلي السؤال التالي : مارأيك بما جرى ويجري في حمص ؟ . لم يكن سهلاً علي أن أجيب على مثل هذا السؤال الصعب  ، ذلك أن ( من يأكل العصي ليس كمن يحصيها ) ، فما بالك إذا كان هذا الإحصائي ، يبعد عما جرى ويجري في حمص مدة أربعين عاماً شبه كاملة . لقد وجدت نفسي ـ واقع الحال ـ أمام إشكالية مزدوجة ، فمن جهة ، كان علي أن أجيب على ذلك السؤال إجابة مقنعة ماأمكن ، ومن جهة أخرى فإن مقتضيات الإجابة المقنعة تقتضي ألاّ يهرف المرؤ بما لايعرف . وأياً كان الأمر فقد كان جوابي ، على سؤال ابنتي والذي أتمنى أن يكون معقولاص ومقبولاً هو التالي : 

1. بداية إنه لايمكن لمتفرج أن " يفتي " نيابة  عن مقاتل ، ولا لشبعان نيابة عن جائع ، ولا لسليم نيابة عن مريض ، ولا لكبير نيابة عن طفل مات تحت ناظر أبويه وإخوته وأخواته جوعاً ومرضاً وعطشاً وبرداً ، بسبب الحصار الوحشي وغير الأخلاقي وغير الإنساني الذي فرضه نظام الأسد وحلفاؤه القريبون والبعيدون على مدينة حمص (عاصمة الثورة السورية) لمدة عامين كاملين . إن هذا يعني تطبيقياً أن  ماسأقدمه هنا ، والذي يمثل جوابي على السؤال الذي طرح علي  ، لن يزيد عن كونه  اجتهاداً شخصياً قابلاً للخطأ والصواب ، ولكنه  سيكون مأجوراً في الحالتين .

2.ان مالا تخطئه الأذن ولا العين ولا العقل ولا القلب  بما يتعلق بحصار مدينة حمص وتدميرها وتهجير أهلها ، هو ذلك التواطؤ العالمي مع نظام بشار الأسد ضد مدينة حمص . والذي تمثل بصورة أساسية  ، من جهة، بتزويد  نظام بشارالأسد  بكل ما يساعده على وقف المد الوطني الديموقراطي في سورية من مال وسلاح بداية ، ومن مقاتلين نظاميين وخبراء وخبرات لاحقاً ، ومن  جهة أخرى ، بصمت الدول الكبرى والوسطى والصغرى ( مايسمى بالمجتمع الدولي ) على احتلال هؤلاء الدخلاء ( الموصوفين عادة  عند الدول الكبرى بالإرهابيين)  لمدينة القصير ، ومن ثم تفرجهم ( بتشديد الراء )على حصار بشار وشبيحته وإرهابييه من داعش وحالش وما لش ( شبيحة المالكي )  لمدينة حمص طيلة عامين  كاملين ، حولتها براميلهم وصواريخهم وأسلحتهم المحرمة دوليا والتي قدموها لبشار الاسد سرا وعلناً الى مدينة أشباح .  

3. لقد تحولت مدينة حمص  نتيجة لصمودها الطويل أمام همجية مغول القرن الواحد والعشرين إلى رمز لصمود الثورة السورية  والشعب السوري ، وبالتالي  لصمود كل ثورات الربيع العربي في وجه الطغاة ، وبات  لابد من تدمير هذا الرمز الوطني والقومي والإسلامي الشامخ من أجل تدمير الثورة الوطنية السورية ، وصولا إلى تدمير ثورات الربيع العربي كلها ، تلك الثورات التي باتت تمثل شوكة في عيون أعداء الامة العربية في الداخل والخارج ، وعلى رأسهم أدعياء الديموقراطية وحقوق الانسان ، في الشرق والغرب ، من الذين ألسنتهم مع الثورة وسيوفهم عليها . 

4.ان الدافع وراء هذه المواقف المعادية والمراوغة ، من الثورة السورية ، بل ومن ثورات الربيع العربي كلها، هوأمران لا ثالث لهما، ألاوهما: ملء الجيوب والدفاع عن المحبوب  . والمحبوب هنا ذلك الذي  يؤمن ( بتشديد الميم ) لأصحاب هذه المواقف المعادية والمراوغة ، من جهة   " ملء الجيوب " ( استمرار تدفق النفط ) ومن جهة ثانية ، حماية هذه الجيوب والكروش المتخمة بالمنهوب والمسروق ، من الإرهابيين ، (وهم هنا الاسلاميون تحديداً ) على حد زعمهم !! ولا أظن أن القارئ الكريم بحاجة لمزيد من الإيضاح ليعرف من هو هذا المحبوب ال ( badyguard ) الذي يحرص أعداء الربيع العربي ، المكشوفون منهم والمخفيون ، على استمرار خدماته لهم ، و حمايتهم له .

5. ان وظيفة هذا "المحبوب" في الوطن العربي ، والذي حولته دول ( المصنع والمدفع ) الى قاعدة عسكرية ، ثم دعمته بقاعدة أخرى في أحد الأقطار العربية ( قاعدة عديد ) وقاعدة ثالثة في سورية ( طرطوس الاسد )، هو بالإضافة إلى ماذكر أعلاه ، المحافظة على اتفاقيات  سايس- بيكو  ( التجزئة ) من جهة ، ومنع التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يمكن أن يؤدي إلى نهضة وطنية وقومية تحول المجتمعات العربية من مجتمعات زراعية متخلفة إلى مجتمعات صناعية متطورة ، بل  واستخدام القوة العسكرية ضد كل من تخول له نفسه الخروج من دائرة التخلف إلى دائرة التقدم ، من جهة أخرى ،  وهو ما رأينا نموذجه الصارخ في مصر بعد تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس عام 1956 وفي العراق في أعوام 1981 ( تدمير المفاعل النووي) و1991 (عاصفة الصحراء ) و 2003 ( الاحتلال الأمريكي )، بعد تأميم صدام حسين لشركات النفط العاملة في العراق عام 1972 .

6. نعم  ، لقد قرر تحالف مثلث : دول المدفع والمصنع ، مع أتباعهم من دول جنرالات و ملوك وشيوخ بعض القبائل والطوائف العربية ، ومع صنيعتهم " إسرائيل " ، أن يجعلوا وبالتعاون مع نظام عائلة الأسد في سوريا ، وحالش في لبنان ومالش في العراق، وملالي طهران ، من حمص مقبرة للثورة السورية ، ومن سورية مقبرة للربيع العربي .

٧. انها أحلامهم المريضة التي لن تتحقق أبدا ، بعد أن بدأ أطفال سوريا عامة ، وأطفال حمص خاصة  ، ومعهم كل أبناء شهداء ثورات الربيع العربي ، وعلى رأسها ثورة 25 يناير في جمهورية مصر العربية ، يأخذون بيدهم راية الكفاح والنضال من آبائهم ، كيما يتابعوا طريقهم  نحو مجتمع الحرية والكرامة ، مجتمع الديموقراطية والعدالة الاجتماعية ، مجتمع المواطنة المتساوية للجميع وبالجميع ، مجتمع الحداثة والتنمية ، مجتمع التعايش الأخوي بين الرأي والرأي الآخر ، بين الدين والدين الآخر ، بين القومية العربية والقوميات الأخرى ، مجتمع الانتخابات الشفافة وغير المزورة ، مجتمع فصل السلطات الثلاث ، مجتمع الوحدة الوطنية  القائمة على الأخوة والمحبة ، مجتمع الدستور والقانون واحترام حقوق الإنسان . وعندما تزهر وتثمر أشجار الربيع العربي ، فسوف يعم شذاها البلدان النامية كلها ، ويصبح بالإمكان القول : إن دماء شهداء حمص لم تذهب هدراً.