صحفيون مصريون في خدمة النظام.. والسبب: دوافع أمنية!
يتحرّج الصحفي الوفيُّ من انتقاد أبناء مهنته؛ خشية أولئك المتحفزين الواقفين على قارعة الطريق دائماً دفاعاً عن استمرار "الجيتوهات" -أي جيتوهات- ومن ثمّ يتهمونك بخيانة شرفٍ مزعومٍ لم يحددوه للمهنة. ولكن في المقابل، فإن الصحفي الأمين لا يمكنه أبداً تغليب مصلحته الفئوية على المصلحة القِيَمية العامة للمجتمع؛ لأنه لو سعى لتغليب قيمة الصداقة والزمالة، فإنه قطعاً يجور على القيمة الأقدس منها؛ وهي "الحقيقة" المكلف نقلها.
والحقيقة، أن الفساد في المشهد الصحفي المصري تابع لمشهدٍ فاسدٍ أكبر في المشهد الإعلامي العام، والذي هو بدوره جزء من حالة فساد أوسع تعيشها كل مؤسسات الدولة دون استثناء.
ولقد دخلتْ حسابات السياسة نقابة الصحفيين منذ زمن بعيد، فأفسدتْ ثالوث النقابة والمهنة والصحفي؛ بل والقارئ أو المتلقي أيضاً، فما عادت نقابة الصحفيين المصريين ملاذاً للحريات والحقوق، وما عادت المهنة تبحث عن الحقيقة أو تدافع عنها، وما عاد الصحفي راغباً في الدفاع عن المظلومين ولا مؤمناً بالحرية، والمسألة تحولت بالنسبة له إلى مجرد "سبوبة"! فيما أدرك القارئ أو المتلقي هذا الحال البائس الذي تحولت إليه المهنة فراح يسيطر عليها عبر الدفع والتمويل سواء للصحيفة أو الصحفي، وسواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر.
وبرزت حسابات السياسة التي أفسدت المهنة في السنوات العشر الأخيرة من عصر مبارك، حينما ظهرت حركات الرفض لمبارك ونجله والتي كانت تتخذ من نقابة الصحفيين ظهيراً لها، فيما انتمى عدد كبير من الصحفيين إليها -أزعم أنني منهم. الأمر الذي دفع النظام إلى تبني سياسة "تعويم" و"اختراق" النقابة عبر قيد آلاف الأشخاص من غير ممتهني المهنة في جداولها، وهو الأمر الذي تحقق بقرارات هلَّل لها البعض بوصفها تحمل إطلاق حق إصدار الصحف الحزبية والمستقلة ب"شروط معينة"، فانطلقت الشخصيات المحسوبة على الحزب الحاكم أو الأحزاب الكرتونية التي صنَعتها أجهزة أمن الدولة أو المخابرات آنذاك بتمويل عناصرها لإنشاء تلك الصحف، وبالطبع يتم الترخيص لها دون ما عداها استغلالاً لتلك "الشروط المعينة"، ومن خلال هذه الصحف، التي سريعاً ما تتعثر وتغلق أبوابها بعد أن تكون قد أدت مهمتها وقد تم قيد آلاف الصحفيين بنقابة الصحفيين، وما بقي من هذه الصحف ثبت للعيان أنه مجرد نشرة للحزب الحاكم ورجال أعماله أو نظائره الديكورية.
وفي ظني، إن هدف النظام الحاكم من الزج بعدد ضخم من الصحفيين الموالين له أو على الأقل من قليلي الثقافة والوعي هو إحداث توازن أمام المجتمع ليبدو للعيان أنه إذا كان هناك صحفيون يهاجمون التوريث فهناك صحفيون أيضاً يدعمونه، فيما قام جهاز المخابرات على الأرجح باختراق تيار رفض التوريث من الصحفيين بتقديم وجوه جديدة تبدو غير محسوبة على نظام مبارك استعداداً للحظة الثورة عليه.
وبنظرة تقريبية سريعة على أعداد المقيدين في جدول القيد بنقابة الصحفيين، نكتشف أن عدد أعضاء تلك النقابة طيلة 68 عاماً، كان منذ إنشائها في عام 1941 حتى 2008 قرابة 5000 عضو مشتغل وتحت التمرين، فقفز هذا العدد في عام 2011 ليصل إلى 8 آلاف عضو، ويواصل الآن قفزاته ليصل إلى 12 ألف عضو بما يتخطى الضعف في 7 سنوات فقط.
وقد تسببت تلك السياسة في إفساد دور النقابة وتحويلها إلى ملجأ للهاربين من طابور البطالة الذي يغتال الشباب المصرى، ونحن هنا لسنا ضد توسيع باب العضوية، ولكن المشكلة أن كثيراً من الصحفيين يفتقدون الصفات الواجب توافرها في الصحفي من خبرة وثقافة ووعي وموقف.
ولك أن تتصور أن الكثيرين من هؤلاء لا يجيدون القراءة والكتابة، كما أن هناك صحفاً مستقلة تقوم بتعيين رجال الإعلانات والإداريين والعاطلين مقابل مبالغ مادية تحصل عليها إداراتها نظير إلحاقهم بنقابة الصحفيين وممارسة عمليات النصب والابتزاز، مما يدر عليهم أرباحاً مهولة تجعلهم يعوّضون ما دفعوه في أشهر معدودات، ويبقى لهم بعد ذلك بدل التكنولوجيا وخدمات النقابة التي باتت جراء هذه الممارسات هزيلة جداً.
في حين تقوم صحف أخرى -وهي، في الواقع، معظم الصحف المستقلة والقليل من صحف الأحزاب الوهمية- بإجبار منتسبيها على تحرير استقالات مبكرة قبل قيامها بتثبيتهم والتأمين عليهم وتسخيرهم للعمل لديها من دون أجر مدداً طويلة نظير إعطائهم فرصة الالتحاق بالنقابة وبعد ذلك تتركهم ليزيدوا من معاناة النقابة المريضة أصلاً.
ولن أكون مبالغاً إذا قلت إن المعايير التي يتم تعيين الصحفيين على أساسها في معظم الصحف لن تخرج عن ثلاثة: فإما أن يكون هذا الصحفي يحمل توصيةً من رئيس مجلس إدارة إحدى الشركات المعلِنة في هذه الصحيفة، وإما أن يكون حاملاً توصيةً من جهة أمنية، وإما أن يكون قريباً لرئيس التحرير ليحظى باستحسانه، وقد يحدث في أحيان نادرة أن يتم تعيين الصحفي على أساس الكفاءة والمثابرة.
المشكلة أن الصحفيين الذين تم تعيينهم على أيٍّ من الأسس الثلاثة السابقة، عادة ما تكون خبراتهم في غاية الضحالة وهو السبب ذاته -يا للعجبّ!- الذي قد يؤهلهم لاعتلاء أرفع المناصب في هذه الصحف.
فيما تتعمد بعض الصحف الحزبية والخاصة إجبار الصحفي على توقيع استمارة استقالة كشرط لتعيينه وإلحاقه بنقابة الصحفيين، وليس ذلك فحسب؛ بل إن بعض هذه الصحف يقوم بجانب ذلك بإلزام الصحفي بالتوقيع على إقرار يفيد بأنه مسؤول مسؤولية كاملة عن أثاث المؤسسة كافة مع تحريره إيصال أمانة على بياض؛ وذلك في محاولة لإجباره على التزام الصمت بعد تعيينه وعدم اللجوء إلى الشكوى!
ومهنياً، كثير من الصحفيين، لا سيما المتدربون، يقومون بتسليم الموضوعات الصحفية إلى إداراتهم ويفاجَأون بأن ما نُشر كان مغايراً تماماً لما كتبوه، كما أن آخرين يقصّرون الطريق فيبذلون جهدهم في تكييف كتاباتهم مع ما يتوافق وسياسة تحرير صحفهم خصماً من حساب الحقيقة، فضلاً عن أخطاء في الديسك والإملاء واللغة، وأخطاء تنم عن عدم الوعي والجهل، وبالطبع كل ذلك يذوب في مغسلة "الديسك".
أنا هنا استرسلت في ذكر مثالب الصحافة والصحفيين، ولكن هناك أيضاً شرفاء كثيرون، ولكنهم كعادة كل جميل في بلداننا لا نراهم؛ لأنهم غُيّبوا عمداً مع سبق الإصرار والترصد ضمن تدخلات السياسة.
وسوم: العدد 697