أيّ مستقبل تدخله أميركا.. والعالَم؟
أصبح من الواضح الآن أنّ الإدارة الجيدة التي ستحكم الولايات المتحدة لن تتناقض كثيراً في سياساتها مع مضمون التصريحات التي كان دونالد ترامب يدلي بها خلال حملاته الانتخابية. فتعيين ستيف بانون المعروف بمواقفه العنصرية ضدّ السود، كمستشارٍ إستراتيجي للرئيس الجديد، وتعيين الجنرال مايكل فيلين، المساهم مؤخّراً في حملة "الإسلاموفوبيا" داخل أميركا، كمستشارٍ للأمن القومي، ثمّ تعيين السيناتور جيف سيشنز، المشهور بمواقفه ضدّ المهاجرين وبتأييده للجماعة العنصرية "كوكلاس كلان"، وزيراً للعدل، تتوافق هذه التعيينات كلّها مع سياسات أكّد عليها ترامب في عدّة مناسبات، وأثارت الكثير من المخاوف والقلق داخل الولايات المتحدة وخارجها.
وإذا كان الأميركيون الأفارقة والمهاجرون الجدد والأقليات الإسلامية والعربية واللاتينية هم الأكثر حذراً الآن من تداعيات المستقبل القريب داخل المجتمع الأميركي، فإنّ سياسات الإدارة الجديدة لن تقلّ خطورة على المستوى الخارجي. فنهج إدارة ترامب سيوقظ من جديد مقولة "الخطر الإسلامي" القادم على الغرب، تلك المقولة التي بدأت في عقد التسعينات ثمّ ازدهرت في مطلع القرن الحالي مع "المحافظين الجدد" في إدارة جورج بوش الابن، والذين استثمروا أحداث 11 سبتمبر 2001 لصالح أجندتهم الدولية.
ولن تتناقض أيضاً توجّهات الإدارة القادمة مع تصريحات ترامب بشأن روسيا. فأولوية المواجهة مع "الخطر الإسلامي" تقتضي مؤقّتاً وقف التركيز على روسيا بأنّها الخطر الأول على دول الغرب، وهو الأمر الذي أشاعته إدارة أوباما في السنوات القليلة الماضية. وربما سنسمع تبريرات من إدارة ترامب القادمة لهذا التراجع في الموقف من روسيا بالقول إنّ أميركا والغرب عموماً تعاونا مع موسكو الشيوعية لمواجهة النازية في الحرب العالمية الثانية، فلِمَ لا يكون التعاون الآن في مواجهة "الإرهاب الإسلامي"!.
لكن ما الذي يمكن أن تفعله الإدارة القادمة في "حربها على الإرهاب" غير الذي تفعله الآن إدارة أوباما؟. الفارق الوحيد ربّما سيكون في كيفية التعاطي مع إيران حيث ستقف إدارة ترامب في صفٍّ واحد مع حكومة نتنياهو الإسرائيلية، والتي كانت ترفض الاتفاق الدولي مع طهران وتسعى إلى تصعيد عسكري تتورّط فيه الولايات المتحدة ضدّ إيران، وستتوافق أيضاً الرؤى بين واشنطن وتل أبيب بشأن الملف الفلسطيني والاستيطان واعتبار أي مقاومة ضدّ إسرائيل حالة إرهابية، تماماً كما كانت الأمور في عهديْ شارون وبوش الابن.
ستشهد الولايات المتحدة والعالم الكثير من المتغيّرات في ظلّ إدارة ترامب القادمة، وربما أهمّ هذه المتغيّرات ما بدأت تعيشه عدّة ولايات أميركية من حالات استفزاز وإساءة لمهاجرين جدد وللمسلمين، وما هو يحدث في أوروبا من انتعاش للتيّار اليميني المتعصّب. فالمسألة ليست مرتبطة بشخص ترامب، بل بالتيّار السياسي والشعبي الذي دعمه وانتخبه وجعله يأتي الآن بمن يمثّلون هذا التيار الى حكم الدولة الأعظم في العالم.
هذه المتغيّرات تحصل في الحياة السياسية الأميركية منذ مطلع هذا القرن الجديد، وبعد تداعيات 11 سبتمبر 2001، حينما ارتبط موضوع الأمن الداخلي الأميركي بحروب كبيرة في العالم الإسلامي، وبمسائل لها علاقة بالعرب وبالمسلمين وبالأقليات الدينية والعرقية في أميركا، إضافةً طبعاً للدور الخطير الذي قام به من عُرِفوا باسم "المحافظين الجدد" في صنع القرار الأميركي، وفي تغذية مشاعر الخوف لدى عموم الأميركيين، ممّا دعم أيضاً الاتّجاه الديني المحافظ في عدّة ولاياتٍ أميركية، خاصّةً بعد فوز باراك أوباما بمنصب الرئاسة في العام 2008 وما سبّبه ذلك من عودة مشاعر العنصرية لدى بعض الأميركيين، وخوفهم على نهاية عصر "أميركا البيضاء البروتستانت الأنجلوسكسون".
وممّا يلفت الانتباه أنّ الدستور الأميركي يمنع الحكومة الاتحادية المركزية من التدخّل في صلاحيات الولايات الخمسين التي يتألّف منها "الاتحاد الأميركي"، لكن هذا الدستور لا يمنع إطلاقاً الحكومة المركزية (الإدارة) من التدخّل في شؤون الدول الأخرى!.
إنّ "واشنطن" كانت طيلة قرنٍ من الزمن طرَفٌ مباشر ومتدخّل في معظم القضايا والأزمات الدولية، ولكن ما يهمّ المنطقة العربية أنّ الولايات المتحدة كانت في مطلع القرن الجديد الحالي الصانع الأبرز للأوضاع العربية الراهنة، فهي بعدما ألغت في عقد التسعينات مرجعية الأمم المتحدة للصراع العربي/الإسرائيلي وجعلت من نفسها المرجعية والحَكم، قامت واشنطن أيضاً في العام 2003 باحتلال العراق وبتغيير مصيره الوطني والسياسي تبعاً لذلك الاحتلال. وكانت واشنطن أيضا، منذ عقدٍ من الزمن، وراء الاتفاق الذي أدّى في العام 2010 إلى انفصال جنوب السودان عن شماله. كما كانت واشنطن طرفاً مباشراً في ما حدث ويحدث في المنطقة العربية من حروبٍ إسرائيلية على لبنان والأراضي الفلسطينية، ومن تطورات سياسية وأمنية جذرية تحدث في عدّة بلدانٍ عربية منذ اندلاع الانتفاضات الشعبية في مطلع العام 2011، والتي أفرزت ما هو أولوية دولية الآن من حربٍ على الإرهاب، ساحاتها العملية هي الأرض العربية، ورؤوس قادة الإرهاب هم من العرب المسلمين!.
وقبل كلّ هذه القضايا الراهنة، كانت واشنطن عرّاب الاتفاقات والمعاهدات التي حصلت بين مصر والأردن ومنظمّة التحرير مع إسرائيل، والضامن لاستمرار الحكومات والظروف التي تدعم هذه المعاهدات، والضاغط على كل الأطراف العربية لفرض التطبيع مع إسرائيل قبل انسحابها من الأراضي العربية المحتلة، وقبل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وقبل الحلّ العادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين!.
هذا التدخّل الأميركي في شؤون البلدان العربية وقضاياها هو بمعظمه تدخّل سلبي جلب ويجلب ردود فعلٍ سلبية على السياسة الأميركية ومصالحها في المنطقة، خاصّةً في ظلّ وجود وتأثير "السياسة الإسرائيلية" على السياسات العامة الأميركية.
فما يحدث بالخفاء والعلن في المنطقة العربية، منذ مطلع هذا القرن، من تهيئةٍ سياسية وأمنية لإعادة خلط كيانات المنطقة وفرزها من جديد على أشكال مختلفة عمَّا هي عليه الآن نسبياً، هو أمرٌ معنيّةٌ به أولاً وأخيراً الإدارات الأميركية المتلاحقة، وسيكون مجدّداً في أولويات إدارة ترامب القادمة، والتي ستكون منسجمة حتماً مع "السياسة الإسرائيلية" في عموم "منطقة الشرق الأوسط" بوجهيها العربي والإسلامي.
لقد بدأ القرن الحادي والعشرون بحربٍ أميركية على الإرهاب برّرتها أعمال الإرهاب التي حدثت في الولايات المتحدة عام 2001، لكن ساحات هذه الحرب الأميركية كانت البلاد العربية والإسلامية، والقوى المشاركة فيها شملت العديد من الدول الغربية، ممّا أعاد للذاكرة العربية ما حدث في مطلع القرن الماضي من استعمارٍ واحتلالٍ وهيمنة أوروبية على المنطقة العربية، ومن تقسيمٍ للأرض والشعوب العربية، حيث قامت كياناتٌ ودولٌ متصارعة على الحدود فيما بينها، بينما هي أحقُّ بأن تكون أمَّةً واحدة ذات كيانٍ سياسيٍّ واحد، كما هي أمم العالم الأخرى.
لكنّ الفارق بين حال "الأمّة الأميركية" مثلاً، وحال "الأمّة العربية"، هو أن توحيد الولايات الأميركية على أسس دستورية سليمة، جعل منها أمّةً واحدة رغم عدم وجود العمق التاريخي لها ولعناصر تكوين الأمم. فهل كانت أميركا قادرةً على جعل القرن العشرين "قرناً أميركياً"، وعلى التحوّل إلى القوة الأعظم في العالم لو لم تكن الأمّة الأميركية أمّةً موحدة، أو لو انتهت الحرب الأهلية الأميركية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بانفصال الولايات الجنوبية عن الولايات الشمالية؟!.
طبعاً، لم تكن هناك "أيدٍ غريبة" ولا "تدخّلاً خارجياً" في الحرب الأهلية الأميركية، كما هو حال العديد من الأزمات العربية الراهنة، ولم يكن هناك "مجلس الأمن الدولي" الذي يقرّر الآن مصير حروب ودول وشعوب، ولم يكن هناك صراع إرادات أجنبية أو "لعبة أمم" على الأرض الأميركية، كالذي نراه يحدث الآن على الأرض العربية.
تُرى، لِمَ هذا التناقض الأميركي بين السياسة الحالية وبين خلاصاتٍ هامّة من تاريخ التجربة الأميركية. فاستقلال أميركا عن التاج البريطاني كان حصيلة مقاومةٍ أميركية مسلّحة قادها جورج واشنطن. كذلك، كان في التجربة الأميركية أنَّ أبراهام لنكولن قاد الجيش الاتحادي الشمالي ضدَّ انفصال الجنوب الأميركي، ولم يكن موقف واشنطن آنذاك قائماً على حقّ "الجنوب الأميركي" بتقرير مصيره !!
أيضاً في التجربة الأميركية، أنَّ قادة 13 ولاية اجتمعوا في فيلادلفيا عام 1787 لأشهرٍ عديدة وهم يتحاورون حول كيفية تحقيق الاتحاد والتكامل بين هذه الولايات، عوضاً عن الشرذمة فيما بينها والصراعات التي عصفت بها عقب الاستقلال الأميركي.
هذا هو النموذج الأميركي المطلوب للعالم وليست أميركا العنصرية أو أميركا العدوانية أو أميركا دونالد ترامب.
إنَّ العرب يريدون لأمَّتهم ما أراده الأميركيون للأمَّة الأميركية حينما تحرّروا من الهيمنة البريطانية، وما فعله الأوروبيون في قارّتهم المليئة بالصراعات الدموية التاريخية وبالتنوّع الديني والإثني والثقافي. العرب يريدون لأمَّتهم تكاملاً بين أوطان الأمَّة الواحدة وتطويرَ صيغ العمل العربي المشترك وصولاً إلى النموذج الاتحادي الأوروبي، إنْ تعذَّر الوصول الآن إلى النموذج الفيدرالي الأميركي. العرب يريدون في أمَّتهم حقَّ رفض أيّة دعواتٍ انفصالية أو تقسيمية في كلِّ بلدٍ عربي، وتثبيت وحدة الكيانات ووحدة الأوطان ووحدة المواطنين.
وهل حالت القنابل الأميركية النووية في اليابان من ولادة المنافس الاقتصادي الياباني؟ وهل منعت "الحرب الباردة" ووجود قواتٍ أميركية وروسية في معظم دول أوروبا وتقسيمها بين "شرق" وغرب" من أن تتّجه هذه الدول نحو التكامل والاتحاد؟ وهل أنهى تقسيم ألمانيا، واحتلالها من "الشرق" والغرب"، روح الاستقلال وإرادة التوحّد في الأمَّة الألمانية؟.
هذه أمثلةٌ لدول المنطقة العربية كي تتمثّل بها. لكنّ "الحال العربي" سيبقى ضعيفاً طالما أنّ الحياة الدستورية السليمة ما زالت مغيَّبَة، والصراعات الداخلية والعربية هي السائدة!.
وسوم: العدد 697