البحصة والخابية!

البحصة والخابية!

فادي شامية

هناك خيمتان كبيرتان تظللان حجم تورط "حزب الله" في سوريا؛ الأولى: تكتم الحزب نفسه، فيما يشبه فرض الرقابة العسكرية على وسائل إعلامه ومقاتليه، وبما يمنع تسريب المعلومات والصور والأفلام إلا بحدود ضيقة جداً، أي بما يسمح به الحزب أو يفلت من إطار الرقابة، والثانية: هي خضوع الدولة اللبنانية، بكامل أجهزتها تقريباً، لإرادة الحزب، فلا بيانات عن حركة انتقال المقاتلين عبر الحدود، ولا أنباء عن توقيف مسلحين أو ضبط سلاح، ولا أسماء وصور للجرحى، ولا حتى بيانات توضح ما يجري عندما تستخدم الحدود اللبنانية لتقديم الإسناد الناري (أثناء معركة القصير على وجه التحديد)، أو الإسناد الجوي (طائرات بلا طيار أثناء معارك القلمون). 

الحجج المتدرجة

في الواقع؛ فإن الانغماس القتالي الأكبر لـ "حزب الله" في سوريا – والذي يعكسه حجم القتلى- كان في العام 2013، لا سيما عندما خاض الحزب معركة احتلال القصير، وقد تزايد هذا الحجم في العام 2014، وهو يسير نحو مزيد من التزايد، حتى بات الحزب اليوم يقاتل على كامل التراب السوري، بأعداد أكبر ومهمات أعظم، وبالمقابل؛ خسائر أفدح.

ومن الطبيعي أن يترافق هذا التورط المتدرج مع خطاب متدرج:

1- بدايات الإقرار تمثلت بقول السيد نصر الله في 11/10/2012: "هؤلاء – الذين في ريف القصير- لبنانيون منذ أكثر من 150 سنة... وبينهم متفرغون في الحزب... وقد قرروا الدفاع عن أنفسهم وعن أرواحهم وعن أعراضهم وعن أملاكهم".

2- مع بروز دور الحزب في دمشق قال نصر الله: "لو وصلت الجماعات التكفيرية إلى مقام السيدة زينب وهدمته لكانت اندلعت فتنة مذهبية في المنطقة" (4/12/2012).

3- مع تضخم دور الحزب خارج القصير ودمشق جعل نصر الله قتال حزبه في سوريا من أجل "تحصين المقاومة وحماية ظهرها وتحصين لبنان وحماية ظهره" (25/5/2013).

 4- بعد قرار الحزب احتلال منطقة القلمون صارت الحرب بالنسبة لنصر الله "حرباً مصيرية ضد التكفيريين وتتطلب وقتاً" (16/2/2014).

هذا لجهة الإقرار بالمشاركة؛ أما لجهة حجمها فقد تدرجت من البحصة إلى الخابية! في البدء وتصحيحاً لزلة لسان أوحت أن النظام السوري منهار؛ شبّه نصر الله حجم مشاركة حزبه في الحرب في سوريا بالبحصة، وعلى قاعدة أن "البحصة تستند خابية" وفق نصر الله" (14/6/2013). هذا التواضع المصطنع لم يخف مواقف عديدة من التبجح أو تصغير قدرة النظام السوري على الصمود.

في 25/5/2013 قال نصر الله: "حزب الله (تدخل) لأن سيطرة هذه الجماعات (التكفيرية) على سوريا أو على المحافظات المحاذية للبنان؛ خطر كبير على لبنان وعلى كل اللبنانيين"، بما أوحى أن النظام – وهذه حقيقة- بات عاجزاً. تلا ذلك افتضاح ما جرى في اللقاء بين نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف والسيد حسن نصر الله؛ إذ كشف بوغدانوف أن نصر الله أبلغه أنه تدخل عسكرياً في سوريا "عندما رأى خطراً جدياً أن تسقط دمشق".

وبعد احتلال القصير نسب المقاتلون من الحزب الفضل لهم، وصوّروا مشاهد كاملة من داخل القصير لتأكيد ذلك، وكذا حصل بعد احتلال يبرود. ليس هذا فحسب؛ بل سرّب الحزب للصحافة أثناء معركة القصير أن خيانات وقعت في صفوف الجيش السوري؛ تسببت بمقتل عناصر من الحزب. 

ومن ثم تجرأت قناة "المنار" على إظهار مساحات أكبر من دور "حزب الله" في سوريا، مضافاً إلى ذلك الأناشيد الحماسية، التي أظهرت نصر الله شخصياً يضع اللمسات الأخيرة على خطط الهجوم على يبرود (نشيد احفر قبرك في يبرود للمنشد علي بركات)، تلا ذلك توقيتات كثيرة للحظة الصفر، على ساعة الحزب، لا النظام السوري، ثم نشر تفاصيل بما يُظهر قيادة "حزب الله" للمعارك، بينما تولت مواقع التواصل الاجتماعي القريبة من الحزب نشر تعليقات ساخرة من دور الجيش السوري الهزيل، وممجدة بدور الحزب الحاسم في السيطرة على يبرود، ووصل الأمر إلى حد إجراء مقابلات مع قيادات عسكرية في الحزب –على مواقع إخبارية قريبة جداً من الحزب- تقول: "إن معركة القصير أثبتت عقم مشاركة الجيش السوري النظامي في أيّ معركة مقبلة، إذ أنّ مشاركته تحوّلت إلى عبء حقيقي، خصوصاً مع الانشقاقات التي حصلت في صفوفه... لذلك لقد قرّرت غرفة عمليات الحزب، بموافقة  القيادة العسكريّة السورية، أن يقتصر دعم الجيش السوري لقواتنا المُهاجِمة على القصف الجوي فقط في يبرود، وحتّى الدعم البري المدفعي والتقدّم بالدبابات أصبح الحزب يتولاه".

أدى هذا الواقع إلى إشكالية تكتية في العلاقة بين النظام السوري والحزب؛ عبرت عنه بثينة شعبان بقولها على صفحة الفايسبوك الخاصة بها: "بعض المحطات الصديقة أقدمت في الآونة الأخيرة على بث مقابلات وتقارير توحي نوعاً ما بأن سوريا ودولتها لم تكن لتصمد لولا دعم فلان وفلان من الدول والأحزاب، وهذا أمر مرفوض" (في اليوم التالي تنصلت من الكلام). ترافق ذلك مع قرار منع وزارة إعلام النظام السوري محطتي "المنار" و"الميادين" من البث المباشر من سوريا قبل الحصول على ترخيص (انتقدت جريدة "الأخبار" المقربة من الحزب هذا الإجراء).

بعد ذلك مباشرة؛ جاء كلام نائب أمين عام "حزب الله" الشيخ نعيم قاسم الذي أوحى من خلاله أن انسحاب الحزب من سوريا من شأنه ضرب قدرة النظام على الصمود، لأن وجود الحزب في سوريا "ضروري وأساسي" حالياً (9/4/2014)، الأمر الذي فتح الباب أمام كلام جدي عن خلافات ميدانية على الأرض في القلمون وفي حلب بين الحزب وجيش النظام السوري.

الطفيل والقصْير

عندما قرر "حزب الله" الإقرار بتدخله في الأتون السوري؛ فعل ذلك من باب أنه  "يوجد عدد من القرى اللبنانية داخل الحدود السورية بمحاذاة منطقة الهرمل. هذه القرى هي بلدات سورية، وهذه الأرض هي أرض سورية، ولكن يسكن هذه القرى والبلدات لبنانيون" كما جاء على لسان السيد حسن نصر الله. وبما أن الدولة لم تفعل شيئاً لحماية هؤلاء، فقد قرر أهل هذه القرى " الدفاع عن أنفسهم، وأخذوا السلاح، واشتروا السلاح، نحن – حزب الله- كنا نرسل حصص تموينية مثلما نرسل إلى ناس آخرين، كانوا يبيعوا التموين لكي يشتروا السلاح"!

قرية الطفيل ليست داخل الأراضي السورية، وإنما جزء من الأراضي اللبنانية (قضاء بعلبك)، لكن لا طريق صالحاً لها من لبنان، وإنما يحتاج أهلها للعبور عبر الأراضي السورية، ليخرجوا منها إلى باقي الأراضي اللبنانية. 

أهل الطفيل لبنانيون؛ سنة ومسيحيون، وعددهم في الأصل 5000 نسمة (لم يبق منهم إلا بضع مئات)، تجرعوا الحرمان أضعاف باقي مناطق البقاع، ويكفي أن الطريق إليهم مسافتها 22 كلم، يحتاج سالكها إلى ساعتين للوصول بسبب وعورتها، فليجؤون إلى الطرقات داخل الأراضي السورية للانتقال من قريتهم إلى باقي وطنهم، ولهذا السبب ارتبطت حياتهم بسوريا أكثر من لبنان، فدولتهم لم تؤمن لهم مجرد طريق تربطهم ببلادهم، فصاروا يتعاملون بالعملة السورية، ويرتبطون خدمياً بالدولة السورية لا اللبنانية. 

لجأ إلى الطفيل مؤخراً آلاف السوريين بسبب معارك القلمون، وقُصفت البلدة بالطيران، ودُكت بالمدفعية، وصار وضعها كارثياً، بعدما فُرض حصار عليها، لكن بدل مساعدتها، أخذ إعلام الحزب بالتحريض عليها بدعوى أنها تؤوي مسلحين، وهنا المفارقة وبيت القصيد؛ ففي قرى القصير قال أمين عام الحزب: "أخذوا واشتروا وباعوا للحصول على السلاح... من حقهم ما فعلوا ومن قاتل فهو شهيد" أما في الطفيل فليس من حقهم حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم (نفى أهل البلدة في مؤتمر صحفي أنهم فعلوا ذلك) بل على العكس ينشط "حزب الله" في محاصرة القرية، وربما مهاجمتها لاحقاً، في صورة تعكس المعايير المزدوجة، وأذُن الجرة التي تديرها الحسابات المذهبية والحزبية للحزب حيثما تريد.