الفقهُ المُدمرُ لِمُصطلحِ الخِلافةِ

د. حامد بن أحمد الرفاعي

يتحدث بعض المسلمين عن مسمى الخلافة بصفتها نظاماً يضاهي النظم المتعارف عليها بين الناس..وأن الخلافة مسمى نظام الإسلام القويم الرشيد فحسب..وأن القول والاعتقاد بأي مسمى للدولة غير مسمى الخلافة هو خروج عن الإسلام وتغييب لدولة الإسلام..ويرددون:لا نريد بغير نظام الخلافة بديلاً..ويصرون أن غياب ( ما يسمونه نظام الخلافة) هو سبب ضعف الأمة الإسلامية وهوانها على الناس..ويزعمون أن النظم القائمة في بلاد العرب والمسلمين بمسمياتها المتنوعة هي نظم كافرة..لأنها لا تأخذ بنظام الخلافة..وهي-على حد زعمهم- نظم عميلة للغرب صنعتها معاهدة سايكس- بيكو..؟!التي ألغت الخلافة..وبفهمي:أن الخلافة ليست نظاماً..إنما هي مصطلح مشتق من قوله تعالى:"إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة"أي أن الإنسان-على الإطلاق- مؤمنه وكافره مستخلف في الأرض..فالخلافة مصطلح يعبر عن  حالة استخلاف الإنسان في الأرض..فكل من يتولى مسؤولية رئاسة أو قيادة بلد ما في العالم فهو مستخلف لقوله تعالى:"ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ"والمستخلفون ليسوا سواء..فمنهم  من هو ظالم..ومنهم من هو مقتصد..ومنهم من هو عادل..ومنهم مؤمن ومنهم ملحد..ومنهم كافر ومشرك..فالخلافة إذاً وصف لحالة تفعيل ولاية وإرادة أمة ما وفق نظام ما..وليست نظاماً بذاتهاً..فالنظام قيم ومبادئ وآليات تنتظم حياة الناس..وتدير شؤونهم ومصالحهم لقوله تعالى:"يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ"وداود عليه السلام كان نبياً ملكاً ولم يكن لقبه السياسي (خليفة) بل كان مسماه السياسي (ملكاً) ومسمى(مَلِكٌ)هو اللقب السياسي الأظهر الذي نطق به القرآن الكريم تحديداً لقوله تعالى:"إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا"ولقوله تعالى:"وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ"ولقوله تعالى:"إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا"وعبارة (خليفة) في الآية هي وصف لحالة استخلاف النبي داود بصفته (مَلِكاً) في أرض قومه..أما نظام الحكم الذي طُلِبَ منه أن يقيمه هو(الحكم بالحق وعدم اتباع الهوى) والناس متوافقون أن (العدل أساس الحكم)..ومتفقون أن (الأمة صاحبة الولاية في اختيار من يحكمها بالعدل)والاختلاف الجاري بينهم حول كيفية الاختيار والأداء..؟وذلك من حيث منهج تفعيل مبدأ ولاية الأمة..ومن حيث آلياتُ تنفيذ إرادتها..ومن حيث مرجعيةُ قيم الحق والعدل..ومن حيث معاييرُ أداء الحق والعدل.أما مسميات الحاكم فقد تحدث الإسلام عن مسميات عديدة:(الإمام،الملك،السلطان،الأمير،وولي الأمر)ولم يُلزم الإسلامُ الناسَ بواحدة منها..وإنما ألزمهم ويلزمهم ويأمرهم بأداء مصالح الناس بالعدل لقوله تعالى:"إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ"أما المسميات والوسائل والآليات فَتُركت لخيارات الشعوب بما يناسب أزمنتهم وأعرافهم لقوله صلى الله عليه وسلم (أنتم أدرى بشؤون دنياكم) فمصطلح الخلافة ليس مسمى لنظام الإسلام الرشيد كما يدعي البعض ويزعم..والاحتجاج بعبارة(الخلفاء الراشدون)المتداولة على ألسن الناس وفي كتب التراث..فهي وصف صحيح لحالة العدل والرشد التي كان يتمتع به أمراء المؤمنين إذاك..مثلما أنصف كثير من المسلمين الملك عمر بن عبد العزيز فوصفوه بالخليفة الراشد لما اتصف به عهده من العدل والرشد..ولو أنصف النَّاس اليوم لأعطوا وصف الخليفة الراشد للملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله تعالى..فما فعله في مسيرة الأمة في زمانه رغم تعقيداته وتحدياته الجسام من بعث وتجديد لدولة الإسلام وتطبيق لشرعتها وإعلاء لصروحها الحضارية..وما أقام من  الأمن والأمان والاستقرار على امتداد الجزيرة العربية الواسعة المترامية الأطراف..لهو بفهمي أجل وأعظم مما فعله الملك عمر ابن عبد العزيز رحمه الله تعالى في زمانه..أجل فنظام الإسلام وحكمه الرشيد يقوم على:العدل والحكمة والرشد والقيم والمبادئ والأخلاق والسلوك الحسن والتراحم..نظام الإسلام هو إقامة الحياة وتحقيق المصالح..وشِرعته تَدعو إلى كل جَهدٍ بشريٍّ جَمعيٍّ ينُهضِ بمَهمةِ الاستخلاف الربانيّ المُشتركِ في الأرض..من أجل عمارتها واستثمار خزائن خيراتها لصالح الناس لقوله تعالى:"هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا"ولصالح إجلال قدسية حياةٍ الإنسان وحريته وكرامته ومصالحة..ولصون سلامة البيئة..وعدم إفسادها وتدميرها..شِرعةُ الإسلامِ ترفضُ الإساءةَ إلى الآخرِ..وتمقتُ انتهاكَ حُرمةِ الآخرِ وتنهى عن عزلةَ الآخرِ..شِرعةُ الإسلامِ هي أنسَنَةُ الفِكرِ والثقافةِ والمعرفةِ والفضيلة والخير..شِرعةُ الإسلامِ تُؤسسُ لمجتمعٍ إنسانيٍّ قوامُه الأخوةُ والمحبةُ والمودةُ والعدل والقسطُ والسلام..ونهج الإسلام في تحقيق كل ما سبق من قيم ومثل يقوم على البيعة والتعاقد..ولنتأمل حوار الإمام الشافعي رحمه الله تعالى مع العلامة ابن عقيل رحمه الله تعالى بشأن السياسة:قال الإمام الشافعي:لا سياسة إلا ما وافق الشرع..فقال ابن عقيل:السياسة ما كان من فعل يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد..فإن أردت بقولك:إلا ما وافق الشرع..أي لم يخالف ما نطق به الشرع:فصحيح..وإن أردت:لا سياسة إلا ما نطق به الشرع:فغلط..فأي طريق يأتي بالعدل والقسط والمصلحة فهو من شرعة الله..وإن لم ينزل به وحي أو نطق به نبي..وهذا ما أكدته القاعدة الفقهية:(حيثما تكون المصلحة فثمَّ شرع الله)أما استشهاد البعض بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :(تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ،ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا،ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ،فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ،ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا،ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّاً،فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ،ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا،ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً،فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ،ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا،ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةٍ.ثُمَّ سَكَتَ( فالمتأمل لألفاظ الحديث يجد بكل وضوح أنه يقارن بين منهج النبوة(أي النظام القائم على البيعة والتعاقد) وبين ما سيُستحدث بعده من مناهج ونظم أقل منه في مراتب العدل والرشد..وهذا ما يؤيده ويؤكده قوله صلى الله عليه وسلم:" خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي(القرن هناهوالعهد)،ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ"فالقصد من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم التأكيد على المنهج والنظام العادل..وليس القصد منها التأكيد على الخلافة مُسَمّىً حصرياً لنظام الإسلام كما يفهم البعض..وبالتالي فإن الحديث الشريف أعلاه حجة داعمة ومساندة لما قدمنا من تجلية وتصحيح لخلل وخطر استخدام(الخلافة) بصفتها مصطلحاً لمسمى حكم الإسلام ونظامه على النحو المدمر المتبع من قبل ما يسمى:(دولة الإسلام في العراق والشام- داعش).أجل فهذا الفهم المغلوط المختل..يشكل أساس فتنة التغرير بالشباب وحقن ضغائن الكراهية والحقد في نفوسهم..ودعوتهم وتشجيعهم وإغرائهم باستباحة دماء المسلمين ودماء المستأمنين في بلدانهم وتدمير ممتلكاتهم..وما القتل المجنون والمحارق والمجازر والدمار الشامل المتفاقم في بلاد العرب والمسلمين وغيرهم من بلدان العالم إلا ثمرة نكدة لفقه مصطلح الخلافة المبتدع المدمر..الأمر الذي ينبغي التصدي لمخاطره الماحقة بقوة..من خلال توعية فقهية وفكرية حاشدة على مستوى الأمة..وهنا أذكر بأن هذه الفتنة المدمرة ليست جديدة..فهي قديمة يذر قرنها من حين لآخر..وما فتنة احتلال الحرم المكي بزعامة الخارجي المهووس دينياً جهيمان ومن معه عنا ببعيد..وفي هذا الشأن وفي مطلع السبعينات قال لي أحد المستشرقين وأنا أحاوره:عليكم أن تقتنعوا وتوقنوا أنكم أمة قد باتت في عداد التراث البشري..نعم نشهد لكم أن تاريخكم كان مشرقاً وقدمتم للبشرية خدمات كبيرة..أما اليوم فأنتم خارج التاريخ وليس لكم شأن يُذكر..قلت هذا ظلم وإجحاف كبير ونحن بكل شجاعة وموضوعية نتحمل مسؤولياته وأسبابه..قال:لِمَ ..؟قلت:لأننا لم ننبئ التاريخ ولم نحطه علماً بما صنع وأبدع آباؤنا في حياتنا المعاصرة..قال:أين هم..؟وماذا صنعوا لكم..؟قلت:هل سمعت بالمملكة العربية السعودية..؟قال:وهل هناك أحد لا يعرف السعودية..؟إنها مملكة البترول المتحكمة بمصائر الشعوب..إنها مصدر الإرهاب الديني والإرهاب البترولي..ودخلت معه في حوار حول تفنيد هاتين التهمتين الظالمتين..وأذكر باختصار مما قلت له بهذا الصدد:فبشأن الإرهاب البترولي قلت:وماذا عن الإرهاب الصناعي ..؟عليك أن تعرف أن ثمن قطعة تبديل بسيطة يكلفنا أكثر بكثير مما يكلفكم لتر البترول السعودي..وقلت له (لكونه إيطالي الجنسية):وماذا عن إرهاب ألسبيقتي (المكرونة الإيطالية) قال:أتحب ألسبيقتي..؟قلت:كما تحب أنت البترول..وأما بشأن الإرهاب الديني فقلت:هي عدوى مقيتة جاءت إلينا من أروقة كنائسكم ومعابدكم..ألم تقرأ شيئاً عن مجازر                                             محاكم التفتيش.؟ألا تعلم أن ثقافة قطع الرؤوس وحرق الناس أحياءً نشأت هناك في معابد الكاثوليك في إسبانيا وفرنسا..؟وبعد أيصح لكم أن تتحدثوا عن الإرهاب الديني..؟وقد حصدتم به من أجيال البشرية ما يزيد عن 50 مليون ضحية خلال حربين عالميتين دمرتم بهما ثلثي العالم من أجل توحيد بلدانكم ولم تفلحوا..وهل يصح لمن أباد الملايين بتفجير قنابله النووية في هوريشيما ونغازا كي ودمر شعوباً وبلداناً بكاملها أن يتهم غيره بالإرهاب الديني ..؟؟؟!!! أما نحن فلك أن تعلم أن شاباً يافعاً اسمه عبد العزيز ابن عبد الرحمن آل سعود استطاع ببضع وعشرين رجلاً أن يوحد كيانات وزعامات وسلطات متعددة على امتداد جزيرة العرب ويؤلف بين قلوبهم حول قيادته بالحب والمودة..وجدد دولة الإسلام وأقام لها صروحاً حضارية معاصرة في شتى ميادين الحياة..الأمر الذي يدحض تساؤلك أين أنتم اليوم..؟نحن موجودون بقوة وجدارة..وإنها لمسؤوليتنا في عدم تعريفكم وتعريف التاريخ بإبداعات نماذجنا الحضارية المعاصرة..وبما صنعت ولا تزال تصنع قياداتنا في المملكة العربية السعودية..رغم حروبكم الساخنة والباردة المباشرة منها وغير المباشرة التي تشنوها علينا وعلى كافة المستويات..هذا وأعددت من بعد بحثاً افصل فيه الرد على هذه التهم وغيرها من تهم الحاقدين والمرجفين بعنوان(المملكة العربية السعودية والنهج الحضاري)وهو الفصل الأخير من كتاب (الإسلام والنظام العالمي الجديد) الذي صدر عام 1416ه أجل يا قوم:إن منهاج الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله تعالى في الحكم..وأنموذجه الحضاري المتميز في مسيرة حقب التاريخ الإسلامي في البناء والإبداع..لهو أمانة في عنق كلِّ سعودي وعربي ومسلم بل وفي عنق كلِّ إنسان منصف راشد..يريد للبشرية الخير والأمن والأمان والاستقرار والتنمية الآمنة الراشدة..هذا عهد ينبغي على كلِّ عاقل مخلص التمسك به والعمل به في الرضا والغضب وفي الشدة والرخاء..أجل هذا عهد نسألك اللَّهم الثبات عليه والعمل به في الرضا والغضب وفي الشدة والرخاء ما استطعنا..اللَّهم فاشهد.

وسوم: العدد 702