قطر عندما يقبّحها دميم
أنشد أعرابي يقول:
كضرائرِ الحسناء قُلْن لوجهها حسداً وبغضاً إنه لدميمُ
وإذا رماها بالقبح كائنٌ ليس له في خُلِقه نصيبٌ من اسمه، فاعلم أنه مدفوعٌ إلى الهمز واللمز والتقبيح دفعا، وهو الذي اكتفى بأن له اسما يحمل وصف الحسن والوسامة، ولو أطال النظر في مرآته منصفا، ورأى سوء الخلق الذي يُلقي بظلاله الكالحة على وجهه، لفعل مثل هذا الرجل الوارد ذكرُه في بعض كتب الأدباء، إذ نظر في المرآة ورأى دمامة هيئته، فولى وجهه قائلا: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه غيره.
داعية جهبذ، بدأ مسيرته الإعلامية كمفسر للأحلام، ثم انتقل بعدها إلى مخاطبة الشباب، ليصبح بعدها إعلاميا ناقدا للظواهر الاجتماعية، وبمركبته الفضائية التي تنساب بسهولة مريبة، صار الداعية مفكرا إسلاميا وناقدا للحركات الإسلامية.
وبعد أن أوجد له مساحة في الفراغ، وتبعته شرائح متنوعة من جماهير الأمة، نزع عن وجهه القناع الذي يخفي الحقيقة، وولى ظهره كل مواطن الخلل، وبات علماء السعودية ودعاتها مقصده ومرامه، وصب عليهم من حمم نقده الهدام، وعرّج على مؤسساتها الرسمية، وجعل يناجز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأسماها بـ “مافيا المتدينين”.
وبالتوازي مع ذلك الجهد الجبار في تكسير عظام الأمة، نصّب الداعية نفسه خبيرا سياسيا في الشؤون الإقليمية، واستهدف دولة قطر، وحمّلها كل كوارث الدنيا.
فاتني أن أخبركم بأن الرجل يعتلي تلك المنابر في بلد حصل على جنسيتها، وحصل معها على صك بث الفتنة، بدعوى محاربة الفتنة، {ألا في الفتنة سقطوا}.
الداعية الهمام يستجهلنا ويقرأ عن غيره نصا يشيطن قطر، يستطيع أن يدفع به عن نفسه تهمة الهجوم المباشر عند المساءلة (هذا إن تمت بالفعل)، على طريقة ناقل الكفر ليس بكافر، لكنها فضيحة مكتوبة على قول نزار قباني.
وبحركات مسرحية يحسده عليها شكسبير نفسه، يُبرز للأمة اكتشافه الأعظم: أن دولة قطر توجّه إعلامها لتفتيت الخليج العربي، بل الأمة بأسرها.
يتحدث عن “الجزيرة” القطرية، فخر الإعلام العربي، التي وضعت نفسها في الميدان العالمي كمنافس جدّي لأشهر القنوات العالمية، ووضعت الدولة الحاضنة على الخارطة العالمية بالحضور الدولي.
الجزيرة لم يشكك في حرفيتها وشفافية تناولها للأحداث سوى الدول التي فضحتها الجزيرة وكشفت عوار سياساتها وأنظمتها.
لا ريب أنها قناة تخريبية تنفذ أجندة الدولة الحاضنة لزرع الفتن في الوطن العربي، نعم يا دميم.
هي قناة أثارت الفتنة عندما فضحت السفاحين الذين يسومون شعوبهم سوء العذاب، ويترخصون عبر الفتاوى الضالة في إراقة دماء الأبرياء.
نعم هي أثارت الفتنة عندما كشفت الانقلابيين في مصر، ونقلت حجم الشرائح الرافضة لذلك الانقلاب، عندما بثت صور الأشلاء والدماء في رابعة والنهضة وغيرهما من الميادين في الوقت الذي كان الإعلام المصري يضلل الشعب بمعلومات مضحكة عن جهاد النكاح والمقابر الجماعية تحت منصة رابعة، والتسليح العالي للمعتصمين السلميين، وأمثالك أيها الدميم يرقص مع الراقصين على أنغام “تسلم الأيادي”.
نعم هي أثارت الفتنة عندما نقلت مآسي السوريين في حلب وغيرها من المدن السورية، عندما بثت للعالم تلك المجازر الوحشية التي يرتكبها الأسد وحلفاؤه من الروس والإيرانيين والميلشيات الطائفية بحق الشعب السوري الأعزل.
ونعم هي قطر التي تسعى لتفتيت الأمة، كيف لا وهي التي تساند المعارضة المعتدلة التي تواجه نظام الأسد الوحشي وتنظيم داعش المتشدد على السواء في وقت واحد، نعم هي قطر التي تساند الإرهاب لأنها تفرق بين فصائل معتدلة تدعم الحقوق المشروعة للشعب السوري، وبين تنظيمات تكفيرية متشددة.
نعم هي قطر التي تسعى لتمزيق الوحدة الخليجية عندما توافقت مع التحالف العربي في معالجة الأزمات والملفات الساخنة، فهي التي تساند الشقيقة الكبرى (السعودية) في دعم الشرعية في اليمن، وفي دعم الثورة السورية، وكلاهما محطات هامة في مواجهة المشروع الإيراني المتغول.
وفات الداعية المذهل أن قطر لم تفعل كدولة أخرى عرقلت مسيرة العمليات في اليمن ضد الحوثيين نكاية في الإصلاح اليمني الذي يمثل جزءًا من المقاومة.
فات الداعية أن الدولة التي احتضنته ومنحته الجنسية، هي نفسها الدولة التي هدّدت بزعزعة الدولة التونسية بعد أن رفض السبسي عرضا بقمع حركة النهضة الإسلامية، وليست قطر.
دولته هي التي مولت شبكة سرية في بريطانيا لخلق رأي عام يدعم الهجوم على قطر وجماعة الإخوان المسلمين وتوقيع عقد بقيمة 60 ألف استرليني شهريا مع مؤسسة لوبي لذلك الغرض.
دولته هي التي عبثت بالشأن الليبي، وعملت على نزع الشرعية عن المؤتمر الوطني المناهض للانقلابي حفتر الذي يمثل امتدادا للدولة العميقة، بحسب ما جاء في رسالة مسربة بعث بها برناردينو ليون إلى شخصية بارزة في تلك الدولة، وليست قطر من فعل.
الداعية الجهبذ تحدث عن رعاية قطر لقناة أصبحت تضاهي القنوات العالمية متهما إياها بإشاعة الفرقة والسعي لتفتيت الأمة، لكنه نسي أو تناسى أن الدولة التي حصل على جنسيتها ترعى شبكة للتصوف السياسي، استقطبت خلالها رموز التصوف، بهدف مناجزة التيار الديني السلفي في السعودية وسحب البساط من تحت أرجله.
هي ذاتها الدولة التي رعت مؤتمر الشيشان الذي استبعد علماء السنة في السعودية وقطر وغيرهما من مصطلح أهل السنة والجماعة، ألم يكن ذلك بثا للفرقة والنزاع والشقاق؟
ليت نجم الفضائيات هذا اعتبر بالمَثل الذي قالته العرب: “رمتني بدائها وانسلت”، فقد أرعد الداعية وأزبد، ثم قال إن الدولة (أي قطر)، قامت على انقلاب تلو انقلاب.
جعلني الفتى أفكر في الدول العربية، أيها لم يحدث فيه انقلاب، بل أزيد القارئ من الشعر بيتا، هذا الداعية الدعيّ ينال من قطر على فضائيات دولة ضربها انقلاب بترتيب بريطاني في الثلث الأخير من القرن المنصرم، وضربها انقلاب آخر في القرن الحالي، عندما استُبعد الأمين قسرا، وحل محله من خالف أعراف ولاية العهد في تلك الدولة.
ومما يثير الضحك – والاشمئزاز أيضا، أنه يتعرض لما يطلق عليه في المصطلحات السياسية (الانقلابات البيضاء)، ثم يتجاهل الانقلابات الدموية التي جاء بها أربابها للسلطة على الأشلاء والدماء والدموع.
وكعادة خصومها، هاجم الداعية المرموق قطر بقوله: إن تلك الدولة تتحدث عن حقوق الشعوب في الوقت الذي تكمم فيه أفواه المعارضين في الداخل، وتتكلم عن الحريات وأبواب سجونها مفتوحة لمن ينتقد الولاة.
ولا أجد لصاحبنا ردا أفضل من تقرير حرية الصحافة لمنظمة مراسلون بلا حدود 2014م، فعلى الرغم من أن قطر كسائر الدول العربية جاء تصنيفها متأخرا في هذا الشأن، إلا أنها على المستوى الإقليمي احتلت المرتبة الثانية ، أي تسبق تلك الدولة التي يتبع لها الداعية المُجنّس بخمس مراحل في التصنيف (فارق 5).
أعلم أنني مهما تحدثت عن مشاهداتي ومعاينتي لسقف الحريات عن قرب في قطر، فستكون شهادتي مجروحة لأنني متهمة دائما بالتحيز لقطر، ولا أقول أن قطر أنموذجا في مساحة الحريات، لكنها بالتأكيد ليست الأسوأ، فالحريات المطلقة في هذا العصر محض وهم، حتى في تلك الدولة التي يقبع فيها تمثال الحرية.
فالحريات حتى في أمريكا وأوروبا نسبية ومنقوصة، وليس ذلك مبررا لأي دولة من الدول، لكنه تقرير لحقيقة واقعية، بيد أن مساحة الحريات في الوطن العربي تخضع لمنظومة واحدة، فلن ترى بونا شاسعا بين تلك الدول، وهي كذلك ترتبط ببعضها في التحول الديموقراطي وزيادة مساحة الحريات.
فلا يصح أيها الداعية أن تتحدث عن سجن شاعر قطري، في الوقت الذي تغض الطرف عن قانون في دستور بلدك (التي حملت جنسيتها مؤخرا) بشأن الجرائم الإرهابية يتضمن 70 مادة تصل فيها العقوبة حد الإعدام، دون وضع تعريف واضح للإرهاب، يفتح المجال أمام محاكمات فضفاضة.
وتتجاهل أنها وضعت 80 منظمة إسلامية على قائمة الإرهاب الخاصة بها، منها الإخوان المسلمون، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والعديد من الجمعيات الخيرية الغربية ومنظمات المجتمع المدني.
وأسألك أيها الداعية، من هم الإرهابيون الذين زعمت أن قطر تؤويهم؟ هل تسمي العلامة الوسطي القرضاوي إرهابيا؟ هل تسمي الداعية الراشد نبيل العوضي إرهابيا؟ أي ميزانِ نقدٍ لديك يا هذا؟
هل راعك أن تبني قطر جسورا للحوار مع التيار الإسلامي؟ والله إنها لمحمدة لا منقصة ، فلا ينبغي أن تُلام القيادة القطرية على استثمارها ذلك الانفتاح على قوى الاعتدال الإسلامية، فما هو إلا صناعة للسلام، واحتواء تلك القوى وصيانة للأمة من التطرف والإرهاب.
وهل هؤلاء الإسلاميون إلا قطعة من نسيج أوطاننا الإسلامية والعربية؟ وهل ينبغي للسلطة أن تستعدي هذا التيار؟ وهل يُبنى الأمن الداخلي لبلادنا إلا على أساس التفاهم والحوار؟ أذكر أن التيار الجهادي في مصر الذي دخل في تسعينيات القرن المنصرم مع النظام في حرب طويلة الأمد، لم ينته إلا بالتفاهم والحوار مع تلك القوة التي أعلنت مراجعة شاملة لمنهجها، فهل تعتبر أيها الداعية؟!
وليتك تكف لسانك، وتوظف جهودك نحو وحدة الصف، وليكن نقدك للبناء لا للهدم، وإن شئت أن تقبّح أحدا فابحث عن وجه قبيح، ولن يطول بحثك؟
وسوم: العدد 702