استهبال الحكام للشعوب والغطاء الدّيني
جاء في معجم المعاني الجامع: هبل الشّاب: أي فقد عقله وتمييزه، واستهبل: تظاهر بالجنون، أو تظاهر بالحمق والغفلة.
وقياسا عليه، استهبل فلان فلانا: أي اعتبره أحمقَ غافلا.
يقول المتنبي:
لكلّ داء دواء يُستطبّ به... إلا الحماقة أعيت من يداويها
وعلى رأي الشّاعر التّونسيّ الحبيب الأسود: "والحماقة لها أخوات وبنات عمّات وخالات كالجهالة والسّذاجة والبلاهة والغباوة والسّماجة والتّفاهة والحقارة والسّفاهة، ولها إخوة وأقارب وأبناء عمومة ...وهي بنت الضّلالة، ويقال إن والدها الجهل"
وما يهمنّا هنا هو ليس من ولدوا مصابين بالهبل، فهؤلاء لهم المحبّة والرّعاية وكان الله في عونهم، لكن المصيبة في الذين ولدوا أصحّاء سليمين معافين، وارتضوا الجهل، أو فرض عليهم لأسباب لا إرادة لهم فيها كالفقر والتّخلف الاجتماعي، وعدم رعاية دولهم لهم، ووجدوا من يضلّهم ويسيّرهم حسبما يهوى ويريد، ومع الأسف فإنّ الهبل والاستهبال منتشر في وطننا العربيّ، والأدهى والأمرّ أنّ البعض يتغنّى به وكأنّه نعمة يحسد عليها، ويتمّ استغفال هذه الفئات الواسعة باقناعها أنّهم "خير أمّة أخرجت للنّاس"، فينطبق عليهم قول أبي العلاء المعرّي:
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله...وأخو الجهالة في الجهل ينعم
ويستغلّ الحكّام الطّغاة "نعيم الجهل" هذا، بالبطش فيمن يتمرّد على ذلك الواقع المؤلم والمحزن، ويجدون من يطبّل لهم من فئات المثقّفين الذين يتغنّون في وسائل الاعلام، بالانجازات "العظيمة" و"الانتصارات" التي تحقّقت في عهد الحاكم الطّاغية! ويأتي دور "علماء السّلاطين" ليعطوا للطّغيان والفساد غطاء دينيّا، فوجدنا جماعات دينيّة، تفتي وتؤمن بأنّ "الخروج على الحاكم الظّالم حرام!" ومن يشاهد محطّات التّلفزة، ويقرأ صحفا عربيّة، سيجد أنّ حاكم ذلك البلد هو ظلّ الله في أرضه! حتّى أنّ البعض يحمل لقب"أمير المؤمنين" في وسائل الاعلام، وهذا اللقب يحمل في طيّاته "تكفير" من ينتقد ذلك الحاكم، وما يترتّب على ذلك من عقوبات قد تصل حدّ القتل؛ لأنّه "خارج عن الأمّة مفارق للجماعة"ّ! أو ما يسمّى في المصطلحات الحديثة متّهم "بالخيانة العظمى"!
ومن هذه المنطلقات في استهبال الشّعوب، فإنّ بعض الطّغاة ينهبون أموال بلدانهم وشعوبهم، ويعتبرونها حقّا "شرعيّا" لهم، يورّثونه لأبنائهم من بعدهم، وفي إحدى المقابلات على فضائيّة عربيّة، قال وزير الماليّة في ذلك البلد الثّريّ بأنّه لا يعرف مقدار مداخيل بلاده، لأنّ ذلك من اختصاص "وليّ الأمر"! ولهذا لا غرابة أن نجد العديد من الحكّام وحاشياتهم من مليارديرات العالم، أمّا الفقراء من أبناء شعوبهم فهذا قضاء الله وقدره!
ومن منطلقات هذا الاستهبال فإنّ الهزائم واحتلال الأوطان يعتبر نصرا مبينا، لأنّ الأعداء لم يستطيعوا اسقاط النّظام الحاكم! وكأنّ النظام الحاكم باق إلى ما لا نهاية، في حين أنّ الوطن زائل! وهذا من عجائب ثقافتنا في تقديس الحاكم، وعدم فهمنا لمفهوم الوطن! وهذا لفهم ليس حكرا على عامّة الشّعب، بل تشارك فيه أحزاب وتنظيمات تعتبر نفسها طلائعيّة، فعلى سبيل المثال في أعقاب حرب حزيران 1967 الكارثيّة صدر بيان من الأحزاب الوطنيّة التي كانت عاملة في الأردنّ، اعتبرت أنّ العرب انتصروا في الحرب؛ لأنّ اسرائيل لم تستطع اسقاط النّظامين التّقدّميّين في مصر وسوريا! وانتهى النّظامان اللذان كانا يحكمان هذين البلدين، وبقي الاحتلال قائما بنتائجه الكارثيّة حتّى يومنا هذا.
وبلغ استهبال الشّعوب العربيّة ذروته عندما قال الشّيخ محمد متولي شعراوي لأتباعه وسط التّكبير والتّهليل بأنّه: "صلى لله ركعتي شكر لله لهزيمة الجيوش العربيّة في تلك الحرب! مع أنّه اعتذر عن ذلك عندما استلم وزارة الأوقاف المصريّة في عهد السّادات عام 1977، واعتبر اتفاقات "كامب ديفيد"شبيهة بصلح الحديبة!
وسوم: العدد 704