انتخاباتُهم وانتخاباتُنا

أما " هم " فالمقصود الطبقة الحاكمة وحاشيتها من المنتفعين بأشكال شتى ، الذين يتوزعون بين الاعلاميين والأحزاب وما يسمى المجتمع المدني وبعض " رجال الدين " الذين لا يبيعون ضمائرهم وأصواتهم بالمزاد العلني وإنما بالمناقصة حتى ترسو العروض عند أبخس ثمن.

وأما " نحن " فالمجتمع المبتلى بهم والذي لا أمل لديه في إصلاح على أي صعيد ما داموا " هم " هنا لأنهم لن يتخلوا عن سياساتهم ولا أساليبهم ولا كيدهم للبقاء متحكمين في مقدرات البلاد مهما كان الثمن.

ومن حين لآخر يعمدون إلى تنظيم انتخابات كجزء من آليات الديكور الديمقراطي الذي تتفنن فيه الأنظمة الشمولية ، لذلك فإن نظرتهم إلى الانتخابات تختلف جذريا عن نظرتنا ، فنحن  "المغفلين " نريد من صناديق الاقتراع أن تفسح المجال لبرامج سياسية جدية و وجوه شابة جديدة من أجل الاستقرار السياسي والاجتماعي والإقلاع الاقتصادي وخدمة البلاد ، لكن(هم)  لا يرون في الانتخابات إلا فرصة أخرى لاستهلاك أموال الخزينة بسخاء وتوزيع الفتات على الأتباع وبعض من كانوا مشاغبين حتى ينسوا شغبهم ويدخلوا الصف طائعين ، لتبقى الوعود الانتخابية مجرد وعود كالعادة وتبقى القافلة تسير برتابتها والقطيع متذمرا لا يقدر على أي تغيير.

كل هذا كلام مجترّ ، لكني  أقف متعجبا أمام سجال دعاة المشاركة والمقاطعة وكأنهم جادون فيما يقولون رغم الصفعات والركلات المتتالية عبر السنين في ظل الديمقراطية الصورية السخيفة ، ويعجبني موقف الأغلبية الساحقة من الشعب التي اختارت العزوف والانسحاب الايجابي وتركت المسرحية المتكررة لأصحابها ، والأرقام شبه الرسمية تتحدث عن نسبة لا تتجاوز 13 %في الاقتراعات التي جرت في ظل هذه الديمقراطية " الأصيلة " ، وهذه بصمة شعبية قوية بل هي استفتاء حقيقي ، لكن لا يبالي به النظام الحاكم الذي يعتمد استراتيجيا أخرى وله حسابات أخرى لا تمتّ بصلة كبيرة إلى الشعب والرأي العام والديمقراطية.

وأحبّ أن أسجل بكل صدق أني أجهدت نفسي في التنقيب عن إيجابيات تُحسب للطبقة السياسية التي تؤمن بالانتخابات وتمارس العملية الانتخابية منذ 20 سنة ، ذلك أن الموضوعية تقتضي ذكر المحاسن إلى جانب المساوي بل قبلها ، لكني لم أقف على أي منها بل وجدت نفسي أمام تساؤلات ملحّة تواجه المنتخَبين " الطيبين " والنزهاء كما تواجه الوزراء " الطيبين " والنزهاء ، وهي تساؤلات يعرفها القريب والبعيد يمكن تلخيصها في :

-         أثناء تواجد هؤلاء " الطيبين " في المجالس المنتخبة والحكومة تمّ إنشاء ضرة للغة العربية قسرا ، وأدخلت في الدستور رغم أنف الشعب ، لأغراض لا تخفى على أي عارف بالساحة الجزائرية ، ولم يفعلوا شيئا.

-         تمّ تغريب المدرسة تغريبا واضحا لإقصاء المرجعية الإسلامية وإحلال الفكر الغربي محلها ، بما فيه نظرية الارتقاء الداروينية والانحلال الخلقي المقنن ونحو ذلك مما يضرب الدين والأخلاق في الصميم ، والعمل مستمر على قدم وسابق للتضييق على العربية وإنشاء جيل هجين لا علم له ولا تربية ، فماذا فعلوا ؟

-         تمّ تغريب قانون الاسرة وفرض استرجال المرأة وقطع صلتها بالدين والأخلاق والعرف الوطني ، وسكتوا.

-         بلغ الفساد المالي مستويات رهيبة مع تصاعد وتيرتِه كل يوم بحيث أصبح مادة الجرائد يوميا وحديث العام والخاص ، فما وجدناهم يقاومونه.

-         لم تظهر أي نتيجة إيجابية لأي من الاصلاحات التي طالت الادارة والقضاء والقطاع الصحي ، وهو ما يلمسه كل مواطن في جميع المجالات ويعانيه ويشتكي منه فلا يجد أي تحسن رغم الشعارات المرفوعة ، فهل يخالفونني في هذا ؟

-         حكاية التقشف الطريفة التي لا تصيب سوى الطبقات المسحوقة ، مع توقيت غريب لأن الدول المحترمة لا تنتظر حدوث الأزمات لشدّ الحزام وإنما تتهيأ لذلك أيام الرخاء والسعة بدل تبذير الملايير في شراء السلم الاجتماعي حيث نجد من لا يملك يعطي من لا يستحق ، وهم موافقون.

-         حتى القطاع الديني لم يسلم من التشويه بعدما سلّمت الدولة المساجد للطائفة الوهابية فلم تعد بيوت الله واحات نفسية فيها الذكر والفكر وإنما أصبحت منابر لسب العلماء وشتم الدعاة وبث الفرقة بين المسلمين لأن بين هذه الطائفة ونظام الحكم نقطة تقاطع أساسية هي استعباد الناس للحُكام حيث لا يجوز لمن يسمونهم " الرعية " التظلم فضلا عن الرفض مهما جار " أولو الأمر " !!! أليس كذلك ؟

-         وإن أنسَ فلا أنسى التقرير الوافي لجريدة ليبرتي – وهي صاحبة الخبر اليقين كما هو معلوم – واحتفت به جريدة لوموند عن انتشار الخمور وازدهار تجارتها قانونيا حتى إن خمارة عاصمية تضاهي نظريتها الباريسية في المداخيل اليومية... وكان وزير القطاع آنذاك من " الطيبين " جدا.

هل أنا ظالم في تقريري هذا للواقع ؟ هل تجنيت عليهم وهم محسنون ؟ هل غابت عن عيني إنجازات ضخمة رأوها هم وعميتُ عنها ؟ ماذا يقول " ممثلو الشعب " وهم جزء أساسي من هذه الكوارث ؟ هل سينسى الناس أيديهم المرفوعة ...وحتى المسدولة ، لأنها لا تقدم ولا تؤخر؟ وماذا يقول أولئك الوزراء " الطيبون " الذين يتشبثون بخيار المشاركة لأنه يعود بالنفع على البلاد ؟  ثم يأتون اليوم – للمرة الإلف – لحثّ المواطنين على التصويت لهم ليحدثوا التغيير المنتظر ويقوموا بالإصلاح المنشود ؟ ويهددون بأننا إن لم نصوت بكثافة فستكون الكارثة وكأنهم يجهلون أن التصويت هو الذي جلب لنا الكوارث عندما صدّق " الطيبون " الوعود الانتخابية ... أعلم أنهم سيجادلون عن " إنجازاتهم " بأرقام تصيبنا بالدوار ، لكني أحاكمهم إلى الواقع وهو أصدق أنباء من أرقامهم وإحصائياتهم التي لا ينخدع بها احد.

إننا لا نعيش عملية سياسية بل هي مجرد عملية انتخابية روتينية لا تؤثر قليلا ولا كثيرا على الخيارات الكبرى ولا حتى الصغرى ، ولا على " التوازنات الوطنية " ، وهو ما فهمه الشعب منذ مدة طويلة فانحاز إلى خيار العزوف في انتظار أمل بديل يأتي به من يفكرون خارج القفص ، المتحررون فكريا ونفسيا من قيود الواقع المفروض على البلاد ، الذين يقترحون برنامجا طويل الأمد يستبعد ذهنية الواقع المتعفن وأدواته ومؤسساته ليحلّ محلّ ذلك تفكيرٌ آخر مبني على القناعة لا على منطق القوة يستقطب أصحاب المبادئ ويستبعد أصحاب المصالح ، فهذا أفضل ألف مرة من إهدار الطاقات الحية والنوايا الطيبة في تجارب يعرف الجميع فشلها لأنها نسخ مشوهة أعدت في مخابر الرداءة والرأي الواحد والقمع الفكري.

أجل ، هذا خيار صعب وبديل معقد ليس جاهزا مثل البرامج الهزيلة التي يعرضونها علينا لكنه – في تقديري – الضمانة الوحيدة لإعادة الاعتبار للوطنية والحس المدني وتفادي مزيد من التردي ، فالإصلاح ممكن والتغيير كذلك والأمل موجود لكن بشرط تغيير الطريق المسدود الذي يسلكه دعاة العملية الانتخابية ، أما الآن فلهم انتخاباتهم ولنا انتخاباتنا.

أسأل الله ان يحفظ بلدنا من الفتن ويبصرنا بسبل النجاة.

وسوم: العدد 708