ترامب وعملية التسوية
الرئيس محمود عباس في أسوأ حالاته. فهو في حالة تشبه الحالة التي واجهها الرئيس ياسر عرفات في محبسه في مقر الرئاسة في رام الله. طبعا مع الفارق الشاسع بين الرجلين من نواح كثيرة، وأغلبها في مصلحة ياسر عرفات. وكذلك مع الفارق في ما بين الظرف والوضع العام اللذين عاشهما عرفات والظرف والوضع العام اللذين عاشهما ويعيشهما عباس.
فمن جهة الظرف والوضع فقد كان عرفات سجينا فيما عباس طليق يتحرك في كل الاتجاهات. ولكن المشترك كان انقلاب مصر والسعودية وعدد من الدول العربية على عرفات، كما هو الحال مع محمود عباس. وذلك منذ تبنت الرباعية (مصر والسعودية والإمارات والأردن) محمد دحلان بديلا مقترحا له. وكانت مصر والسعودية وأوروبا وأميركا قد تبنت محمود عباس رئيس الوزراء في حينه بديلا مقترحا لعرفات أو وفق معادلة تلك المرحلة: تحويل ياسر عرفات إلى رئيس رمز وتسليم كل صلاحياته لرئيس الوزراء محمود عباس، وكان من أهم حلفائه ضد عرفات كل من محمد دحلان ونبيل عمرو وعدد من قيادات فتح.
على أن الفارق الأساسي بين الظرفين والوضعين يتمثل في ضعف مصر والسعودية وأوروبا وأمريكا قياسا لوضع النظام العربي الضعيف الراهن، كما وضع أمريكا وأوروبا اللتين فقدتا الآن ما كانتا عليه من سيطرة عالمية. وهذا ما يفسّر شدة أزمة الشهيد ياسر عرفات مع انقلاب قطاع كبير من فتح عليه وهو ما سمح لشارون باغتياله مقارنة بأزمة محمود عباس الحالية الأقل نسبيا.
حين يقال إن محمود عباس في أسوأ حالاته أيضا، فإن الأدلة على ذلك، فضلا عن انقلاب الرباعية ضده، تبدأ بالفشل الذريع لرهانه على المفاوضات والرعاية والأمريكية لا سيما في عهد أوباما. ثم ما لحق به من سوء سمعة وفضائح بسبب انغماسه في التنسيق الأمني إلى حد خرج استطلاع أخير يقول أن 64% من أهالي الضفة الغربية يريدون رحيله. ثم إدارة ظهر ترامب له في عدم رده على تهنئته بالرئاسة، وإرسال أكثر من مبادرة مجانية لترامب دون التفات. الأمر الذي زاد الطين بلة بالنسبة إليه. وأصبح حاله مثل الضائع في البرية.
لكن فجأة رنّ الهاتف قبل بضعة أيام، ومحمود عباس يضرب أخماسا بأسداس. وإذ بصوت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يخاطبه بالرئيس عباس، ويبلغه عن رغبته في إعادة إطلاق العملية السياسية.
يمكن تصور حالة عباس مع هذه المهاتفة مثل حالة الشاعر العربي القديم الضائع في البرية وقد وصف حاله بالقول:
"عَوَى الذئبُ فَاستَأنَستُ بِالذئبِ إِذ عَوَى وصـوَّت إِنـسَـان فَكِـدتُ أَطيـرُ"
فعباس الآن يكاد يطير.
طبعا ليس المهم ماذا سيحدث بعد ذلك، أو كيف ستكون النتيجة. لأن المهم الآن أن يُرمى للغريق طوق نجاة، أو أن يَسْمع الضائع في البرية عواء ذئب وصوت ترامب ليطير فرحا.
طبعا ليس مهماً أن يعود إلى المفاوضات وقد مسح، أو نسي، كل الشروط التي وضعها (محمود عباس) خلال السنتين الماضيتين للعودة إلى المفاوضات. وليس مهماً ما يشترطه عليه نتنياهو، مؤيَّدا من ترامب، للعودة إلى المفاوضات، أو في أول أجندتها، الاعتراف بيهودية الدولة، وبالسيطرة الأمنية الصهيونية على كل الغور الغربي لنهر الأردن.
المهم الذي رآه عباس في هذه المهاتفة أنها تؤكد شرعيته. لأن ترامب ناداه بالسيد الرئيس. فهو الرئيس إذن. ودعك من كل شيء عداه مثل انتهاك مدة الرئاسة لسنوات وسنوات وأشياء أخرى كثيرة.
أما مصر والسعودية، فهما الآن تكادان تطيران أيضاً. لأن ترامب أكد لمصر أنه يريد حراكاً إقليمياً نحو عملية التسوية القادمة، ومصر بالطبع في المقدمة. ثم لا تسل عن فرحة السعودية بعد اللقاء الأخير بين ترامب وولي ولي العاهل السعودي، الأمير محمد بن سلمان. وقد انتهت أزمة السعودية مع أمريكا في عهد غير المأسوف على عهده باراك أوباما. فالسعودية أيضاً تكاد تطير.
كما كان متوقعا، منذ مجيء دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة بأن أوضاعا جديدة على المستويات العالمية والإقليمية والعربية والفلسطينية سوف تتشكل، وسوف تكون مختلفة نوعيا عما كانت عليه مع باراك أوباما ومعالجته للسياسات الأمريكية. ولكن كما كان متوقعا أيضا، لن يكون التغيير في السياسات الأمريكية كما عبّر عنه دونالد ترامب في أثناء معركته الانتخابية مع هيلاري كلينتون. فالرجل خارج إلى حد بعيد عن تقاليد المؤسسة الأمريكية. بل أن هذه المؤسسة نفسها هي في حالة ارتباك منذ عهد أوباما نفسه وإلى الآن.
ولهذا كان المطلوب التريّث في التوقع طالما نحن أمام قيادة غير معهودة وظروف مرتبكة، وإزاء أكثر من خيار. وحتى البدء في خيار سيتعرض للتغيير السريع، وهذا ما عبرت عنه إدارة ترامب في مواجهة مختلف المواضيع التي حاولت اتخاذ قرارات بها حتى في تعيينات طاقم الإدارة نفسه.
من هنا جاء توجّه ترامب وإدارته لإطلاق عملية التسوية في الموضوع الفلسطيني على غير ما كان متوقعاً من أغلب المحللين، سواء أكان في التوقيت والسرعة، أم كان في البدء بالمفاوضات. صحيح أن ما يجري حتى الآن، وكما عبّر عن ذلك، موفد ترامب جيسون غرينبلات ما زال في مرحلة التشاور والدراسة. وقد قابل كل من نتنياهو ومحمود عباس لهذا الغرض. أي لم يتقرر بعد كيف ستطلق عملية التسوية، فأمام ذلك عدة خيارات. بل هل ستطلق من خلال مقدمات تشارك فيها دول عربية، أم من خلال الدخول في مفاوضات ثنائية مباشرة بداية، أم.. أم؟
باختصار، ثمة نية أصبحت مؤكدة لدى ترامب في البحث عن إمكان إطلاق عملية تسوية. ولكن كيف؟ فالأمر ما زال خاضعاً للبحث. ولم يتقرر كيف؟
أما الشيء المؤكد فهو أن جعبة ترامب للقضية الفلسطينية ستذهب لتصفيتها في مصلحة يهودية الدولة. وذلك إلى جانب الحشد العربي والإقليمي والدولي ضد إيران وضد المقاومتين في لبنان وقطاع غزة وضد الإنتفاضة. ولكن هذا بدوره مرشح للفشل. فقد جاء ترامب متأخراً وميزان القوى ليس في مصلحته (ولم تتحدد علاقته بنتنياهو بعد؟).
وسوم: العدد 713